لست خبيراً فى لغة الجسد، وتفسير حركات جوارح الإنسان، ولا تحليل المضمون، لكننى أستطيع بكل بساطة وثقة، أن أقول إن طريقة جلسة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ونظراته إلى الرئيس الأوكرانى كانت متحفزة، وكلماته حادة، بعيدة عن التباحث والنقاش، بل كان جى دى فانس نائب الرئيس الأمريكى أكثر حدة، وهو يلقى الأوامر إلى زيلينسكى، ويمهله ساعة واحدة للتوقيع على شروط واشنطن لوقف الحرب، بل طلب منه ألا يفكر فى الأمر.!
ما حدث فى هذا اللقاء العاصف، غير مسبوق، والاجتماع مثير للجدل تاريخيًا، لم نسمع مثله، لكن الواضح أن ترامب أراد ان يظهر العين الحمراء وقوته أمام وسائل الإعلام، لكن الرئيس الأوكرانى لم يكن صيدا سهلا، وهو فى عقر دار الأمريكان فى البيت الأبيض وفى قلب المكتب البيضاوى الذى تصدر منه الأوامر إلى كل الدنيا، لدرجة أن فانس اعتبر محاولة زيلينسكى الرد، عدم احترام للقيادة الأمريكية، وشبه مستشار الأمن القومى مايك والتز، الرئيس الأوكرانى بـ»الصديقة السابقة التى تريد الجدال حول الماضى، بدلا من تحسين العلاقة»، وخرج الوفد الأوكرانى «مطرودا».
هذا الموقف، ذكرنى بتصرف ترامب عند لقائه العاهل الأردنى الملك عبدالله، وفاجأه بإدخال الصحفيين وعقد مؤتمر صحفى رغم عدم الاتفاق على ذلك ولا يوجد فى جدول الزيارة، فى محاولة – على طريقة «اطرق الحديد وهو ساخن»، لينتزع منه موافقة على تهجير بعض سكان غزة إلى الضفة الغربية، لكن فشلت خطة ترامب أمام ثبات وهدوء الملك، الذى استطاع أن يفلت من «الفخ» المدبر مسبقا.
ولم يكن الأمريكيون على قلب رجل واحد تجاه هذا التصرف، وأصدر 14 حاكما ديمقراطيا بيانا أعربوا فيه عن التضامن مع أوكرانيا، ووقع عليه أكثر من نصف حكام الحزب البالغ عددهم 23 حاكما، كما احتشد المسئولون الأوروبيون حول زيلينسكى، ونشروا رسائل تضامن معه.
وتعود جذور الأزمة الروسية الأوكرانية إلى الفترة التى أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتى وإعلان كييف الاستقلال عن موسكو فى 1991، ثم أرادت الخروج من فلك الكرملين نحو حلف شمال الأطلسى «ناتو» والاتحاد الأوروبى، ثم سيطر الروس على شبه جزيرة القرم فى 2014، وتوالت الأحداث نحو التصعيد.
لكن المثير فى الأمر، والذى كان واضحا للعيان منذ بداية الأزمة، أن واشنطن والعواصم الأوروبية دفعوا بزيلينسكى نحو خيار الحرب بالدعم والتشجيع والمساندة بالمال والسلاح والعتاد والمعلومات بلا حدود، وسبحان مغير الأحوال، فقد سقط زيلينسكى فى حفرة الخلاف بين إدارتين أمريكيتين مختلفتين تماما فى موقفيهما، رغم أن الإدارات الأمريكية لا تختلف عن بعضها فى الأهداف، إنما تتغير الأساليب.
وعندنا مثل يقول «اللى متغطى بالأمريكان عريان»، وهذا ما حدث مع رئيس أوكرانيا، الذى كشف عنه ترامب الغطاء ووجد نفسه فى العراء، بين خيارين كلاهما مر، إما أن يوافق على منح أمريكا حق استغلال ثروات بلاده المعدنية، وإما التخلى عنه ليصبح لقمة سائغة فى فم روسيا، وقالها ترامب مباشرة واضحة، إما ان يقبل وإما أن ننسحب.
السياسة والعلاقات الدولية متغيرة وغير ثابتة، فها نحن نرى العداوة واللدد فى الخصومة بين موسكو وواشنطن فى عهد بايدن، يتحول إلى دفء و«شبه صداقة» بين بوتين وترامب، الموقف محتدم على أشده، وأوكرانيا أصبحت فى «ورطة»، والسيناريوهات المتوقعة كثيرة، منها انصياع زيلينسكى والاعتذار، وحصول أمريكا على الغنيمة، أو الإطاحة به بأى شكل، وأيضا إتمام الصفقة، أو أن يصر على موقفه ويدعمه جيشه وشعبه والأوروبيون، ويستمر فى منصبه وتستمر الحرب، لكن لا أحد يستطيع التكهن بما سيحدث، وربما هناك سيناريو آخر يمكن التوافق عليه، خاصة أن الاتحاد الأوروبى يعد خطة ليقدمها إلى أمريكا.
لا أحد يريد الحروب، والتى أصبحت لا تؤثر فقط على أطرافها إنما على العالم كله، فمنذ أن اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية فى فبراير 2022، تسببت على مدى ثلاث سنوات فى أزمات عالمية اقتصادية وسياسية، وخسائر كبيرة، وارتفاع أسعار السلع والخدمات وخاصة الغذائية.