يجمع بين الخلق الرفيع والأدب الجم والدراسة الأكاديمية العميقة فى الأدب والنقد العربى ومدارسه واتجاهاته المختلفة من جهة ومن جهة ثانية لم يجلس فى برج الجامعة ومدرجاتها ولكنه يتفاعل مع الواقع الأدبى بأجياله المختلفة بعمق الباحث وخبرة الواقع المتعددة..
هو الدكتور حسين حمودة أستاذ الأدب العربى بكلية الآداب جامعة القاهرة والذى يترأس أهم مجلة نقدية مصرية وعربية هى مجلة فصول.. صاحب العديد من الدراسات والمؤلفات النقـدية منها: «الرواية والمدينة نماذج من كتاب الستينات فى مصر» وكتـاب « فى غياب الحديقة حول متصل الزمان والمكان فى روايات نجيب محفوظ»، و«ميادين الغضب قراءات فى روايات مصرية» وله أيضاًً مختارات قصصية من عيون القصة المصرية… حصل على العديد من الجوائز منها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب.. الحوار معه متعة فكرية وثقافية وإلى تفاصيل هذا الحوار:
> هل خاصمت الجوائز العالمية الأدب العربي للأبد بعد نوبل «نجيب محفوظ » …ولماذا؟
>> معك حق.. هذه الجوائز تخاصم الأدب العربى حتى الآن، أما عن مخاصمتها إلى الأبد فهذا يدخل فى علم الغيب، نجيب محفوظ فاز بنوبل وكأنه أنتزعها من فم الأسد، لأسباب كثيرة جعلته على درجة من الحضور لدى القائمين على نوبل وعلى لجنة تحكيمها من الصعب تجاهلها أو تجاهله.. نعم نوبل لها انحيازاتها الجغرافية والثقافية واللغوية والسياسية أيضاً، لكن محفوظ فاز بها رغم كل هذه الانحيازات.. ترجمت بعض أعماله منذ فترة مبكرة إلى اللغات التى تعتمدها نوبل، وكتبت عنها دراسات ومقالات كثيرة جداً ومهمة بهذه اللغات..وهذا كله قاد إلى حصوله على هذه الجائزة…
> فى المستقبل هل يمكن ان يفوز بها أحد الكتاب أو إحدى الكاتبات العرب فى ظل هذه الانحيازات؟
>> هذا مرهون بمدى حضور هذا الكاتب أو هذه الكاتبة فى السياقات التى تتحرك بها وفيها نوبل وتضعها فى اعتبارها
> وماهى الاسباب الحقيقية لذلك .. وهل تدخل السياسة فى ذلك؟
>> اشرت إلى بعض هذه الأسباب.. وطبعا هناك اسباب غيرها تتمثل فى امكان أن يعيد القائمون على نوبل النظر فى مفهوم العدالة الجغرافية أو اللغوية الذى ينطلقون منه، أو امكان ابتعادهم ولو قليلاً عن النزعة المركزية التى يصدرون عنها، وهى النزعة التى تجعلهم لا يهتمون بأدب الأطراف فى بلدان كثيرة جداً، وكثير من ادب هذه الاطراف يستحق الحصول على نوبل ولم يحصل عليها
> هل لدينا بعد نجيب محفوط من يستحق نوبل؟
>> طبعا لدينا أسماء كثيرة لها انجازات مهمة تستحق نوبل الآن وخلال عقود طويلة سابقة فى مصر وفى البلدان العربية
> النقد العربى فى ازمة..بسبب النقاد أم الإبداع أم الحياة الثقافية؟
>> ازمة النقد ليست قاصرة على العرب فحسب، لها حضور أيضاً فى الحياة الثقافية غير العربية، وان كانت أكثر وضوحا عندنا
> وما الأسباب؟
>> أسباب الأزمة متعددة وقد أشرت إليها كثيراً من قبل.. من أسبابها عزلة النقد الأكاديمى داخل أسوار الجامعات وداخل سجن المصطلحات، وغياب الناقد الحر «الناقد الجسر» الذى يتوسط بين الأعمال الأدبية وعموم القراء، وتقلص مساحات الاهتمام بالنقد فى وسائل الإعلام المتنوعة، وتغييب الروح النقدية فى مقررات التعليم بمراحله المختلفة.
> بصراحة.. لماذا يقف نقادنا عند حدود نظريات نقدية غربية انتهت صلاحيتها هناك، ولا يتطرقون للواقع النقدى الحالى فى الغرب؟
>> هذه آفة من آفات علاقاتنا بالغرب، وهى علاقة لم تخل خلال تاريخنا الحديث من بعض « التبعية»، بالاضافة إلى الكسل فى متابعة هذه النظريات النقدية الغربية، والتقصير فى مساءلتها ومراجعتها واكتشاف مدى ضيق الأفق فى بعضها، وهو ما يقوم به النقاد والمفكرون الغرب باستمرار، وهو أيضاً ما يمثل فى الثقافة الغربية وفي النقد الغربى دوافع مستمرة للمراجعة وإعادة النظر فى الاجتهادات والتصورات
>لكن هل كل النظريات الغربية تستحق المتابعة والتأثر بها؟
>> كثير من الافكار والمفاهيم التى عرفتها المناهج النقدية الغربية لا تخلو من سطحية ولا من ولع بالبحث عن «نظرية « كاملة ومغلقة ومطلقة ونهائية.. وهذا الولع ضد طبيعة النقد نفسها وطبيعة الإبداع نفسه، وهما طبيعتان تستعصيان على الحدود المغلقة والنهائية
> وما السبب وراء جرينا خلف موضات قديمة فى النقد الغربي؟
>> نحن نسير كثيرا وراء موضات تقادمت لأسباب كثيرة، منها غياب ميراث النقد الآدبى الذى يجعلنا نشارك مشاركة الأكفاء فى الحركة النقدية الإنسانية، ومنها الكسل كما أشرت، ومنها استعدادنا الزائد للانبهار بنماذج بعينها ما دامت تصدر عن الغرب
> هل يمكن ان تقدم لنا بعضا من احدث الاتجاهات النقدية فى العالم الآن التى تلاقى حواراً ثريا هناك؟
>> هناك اجتهادات نقدية كثيرة ومتلاحقة شهدتها النظرية الأدبية المعاصرة خلال القرن العشرين، مثل الشكلانية الروسية ومدرسة فرانكفورت ومدرسة براغ والواقعية الاشتراكية ومفاهيم ميخائيل باختين والبنيوية وما بعدها ومن ذلك السيموطيقا والنقد الجديد ونظريات التلقى والنقد النسوى والنقد الثقافى والتفكيكية وعلم السرد والاسلوبية والتاريخانية الجديدة والنقد البيئى إلى آخره، مع ملاحظة ان هذه الاجتهادات، غير المرتبة تاريخيا، تتساءل حول ما سبقها أحيانا بشكل واضح أو خفي، وبالتالى تقوم بدور من ادوار الامتداد والتراكم حتى وان بدا نوعا من القطيعة بين بعضها وما سبقها.
> وهل تتفاوت هذه النظريات فى تحليل الجوانب المختلفة للنص؟
>> نعم تتفاوت هذه الاجتهادات جدا، من حيث قدرتها على تحليل الجوانب المتعددة الجمالية وغير الجمالية فى النصوص والظواهر الأدبية والإبداعية والثقافية.
> لماذا يقف نقادنا عند الحدود الخارجية للنظريات الغربية بعد ترجمتها دون تطبيقها عمليا على النصوص العربية؟
>> هذا يرتبط بمدى قدرة بعض النقاد على تمثل واستيعاب هذه النظريات، وعلى إجراء يتعلق بعدم فهم العلاقة بين الأعمال الإبداعية، من جهة، والأدوات والمفاهيم الملائمة لتحليلها، من جهة أخري.. وقبل ذلك يتعلق بعدم احترام فكرة ان تناول أى عمل إبداعى يجب أن يبدأ من الاصغاء إلى هذا العمل أولا، وليس من تصور نقدى مسبق بعينه يتم فرضه على هذا العمل، وسؤالك يشير أيضاً إلى تراجع النقد التطبيقى عندنا بالقياس إلى الاهتمام بطرح أو إعادة طرح مقولات نقدية نظرية غربية أياً كانت قيمتها.. وهو وضع بحاجة إلى مراجعة جذرية.
> هل يحق القول إن هناك نظريات للنقد تنفع فى منطقة دون أخرى أو بمعنى آخر لماذا لم تظهر حتى الآن نظرية نقدية عربية؟
>> النقد بطبيعته نشاط إنساني.. وهذا يطرح أسئله كثيرة حول وهم البحث عن نظرية نقدية عربية أو هندية أو صينية إلى آخره…لكن هذا لا ينفى ولا يلغى الخصوصيات الأدبية، ومن ثم لا ينفى ولا يلغى خصوصية التناول النقدى لظواهر أو أعمال أدبية قد تتمايز بين ثقافة وأخري..
.. الإبداع والنقد نشاطان إنسانيان وان تعددت وتنوعت تجاربهما، ولكن هذا لا يعنى ان هذه التجارب تتفاعل وتتلاقح وتتبادل التأثير والتأثر.
> اذا كان القارئ لا يهتم بالإبداع فهل يهتم بالنقد؟
>> أتصور أن الاجابة المنطقية القريبة هي: « لا ».. القارئ الذى لا يهتم بالإبداع لا يهتم بالنقد بالضرورة.. على الأقل لا يهتم بالنقد المرتبط بالإبداع، وان كان من الممكن أن يهتم بالنقد بمعناه الواسع، من حيث هو طرائق للتفكير وللتقييم وللمساءلة وللتجاوز.
> هل هناك نقاد ملاكى لبعض المبدعين وهل هناك اصنام إبداعية يدور حولها بعض النقاد بحثا عن الشهرة ؟
>> هناك ظواهر سلبية كثيرة فى الواقع الثقافى والأدبي، منها ما تشير اليه.. هى ظواهر حاضرة للأسف، ولعل لها صلة بـ« الشللية » و« التربيطات » من جهة، وبالبحث عن بعض المكاسب المحدوده أو غير المحدودة من جهة أخرى أو بـ«الااستنامة» إلى بعض المسلمات التى تحتاج إلى إعادة نظر فيها من جهة ثالثة.. إلى غير ذلك من التفسيرات الممكنة.. ولكن هذا كله لا ينفى ان هناك فى الواقع الثقافى والأدبى ظواهر أخرى إيجابية كثيرة.
ثقوب فى الجوائز
> هل يمثل الإعلام والشهرة حجر الأساس فى اختيار المبدعين للجوائز التى تخضع للتصويت من قبل غير المتخصصين فى كل مجال من جوائز الدولة التقديرية والنيل؟
>> لا أتصور هذا مع هذه الجوائز بشكل خاص، لكننى أود أن أشير إلى أن هناك أسماء كثيرة لمبدعين ومبدعات، وناقدات ونقاد، يستحقون الحصول على هذه الجوائز ولم يحصلوا عليها، لأنها بحاجة إلى ترشيح من جهات أو مؤسسات ثقافية، أى بحاجة إلى ان تكون جزءاً من القوائم التى يتم التصويت عليها.
وماذا عن تصويت غير المتخصصين؟
>> فيما يخص النسبة بين المتخصصين وغير المتخصصين فيمن يقومون بالتصويت، فهذه مسألة تحتاج إلى المزيد من الضبط والتدقيق.
> صرخ البعض بموت الناقد ومنهم كتاب رونان ماكدونالد أو انه يعانى من سنة من النوم، هل ترى ان الناقد قد مات أم نائم وأنت رئيس لأهم مجلة للنقد فى مصر والعالم العربي.
>> أتصور ان رونان ماكدونالد فى كتابه هذا توقف وقفات مطولة عند «موت الناقد «، ولكنه أشار بسرعة إلى أنه فقط أخذ « سنة من النوم».. ولكنه كان يقصد بالناقد الذى مات ذلك «الناقد النخبوي» أو «الناقد الأكاديمي» الذى تراجعت سلطته لصالح نقد آخر غير نخبوى وغير أكاديمي.. وعلى أى حال فرونالد ماكدونالد اشفق فى نهاية كتابه على هذا الناقد وجعله نائماً وليس ميتا، فضلاً عن انه وجد سبيلا لايقاظه من غفوته يتمثل فى تنبيهه إلى ضرورة إعادة اهتمامه بـ»التقييم»، أى إعادة العناية بحكم القيمة الجمالى على الأعمال الأدبية والإبداعية، وحكم القيمة الجمالى هو جزء مهم من التعامل النقدى مع الإبداع، وقد أبتعد عنه بالفعل كثيرون من النقاد الأكاديميين والنخبويين، فى غمرة بحثهم عن موضوعية مطلقة وباردة وصماء.
الهروب إلى التاريخ
> لماذا يهرب المبدع للتاريخ تاركا تشابكات الواقع؟
>> المبدع الذى يتعامل فى عمله الإبداعى مع التاريخ لا يهرب بالضرورة إلى هذا التاريخ، وأنما يصل بينه وبين الحاضر، وهو دائماً يبدأ من هذا الحاضر.. من قضاياه وهمومه ومشاكله وأسئلته، ويجد لهذا كله مادة يستدعيها من التاريخ يستضيء بها ويستكملها فى إبداعه عن حاضره، الحاضر هو البدء والمنتهى فى كل عمل ادبى أو إبداعى له علاقه بالتاريخ
فض الاشتباك
> من يفض الاشتباك بين المؤرخ والمبدع عند تناول أحداث وشخصيات قادمة من أعماق التاريخ؟
>> المبدع يستكمل عمل المؤرخ فى جانب ما من جوانب إبداعه، يطرح «حقيقته الإبداعية» التى تهتم بأبعاد كثيرة لم تهتم بها تناولات المؤرخين، واحيانا يملأ المبدع ثغرات أو فجوات، بل حتى يغطى فترات لم يتوقف عندها المؤرخون، وعلى هذا يمكن تصور انه ليس هناك اشتباك بين المؤرخ والمبدع بالمعنى الكامل للاشتباك، بقدر ما هناك قدر من التمايز بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الفنية أو الإبداعية، والحقيقتان على التمايز بينهما يمكن ان تتكاملا معا
> هل نحن فعلا ما زلنا فى عصر الرواية أم انتقلنا إلى عصر الدراما التليفزيونية؟
>> نحن، منذ عقود طويلة جدا فى زمن صعود الرواية فى الأدب، ربما منذ أربعينات القرن الماضى التى لاحظ فيها نجيب محفوظ ما لاحظه وما صاغه فى مقالته «الرواية شعر الدنيا الحديثة»، رداً على العقاد الذى قلل من شأن الرواية… وهذا الصعود للرواية له تاريخ أقدم فى الأدب الغربي، ربما يكون قد بدأ فى أعقاب الثورة الصناعية خلال القرن الثامن عشر وما بعده، لكن هذا كله اذا كان نطاق الحديث مقتصراً على تراتب الأنواع فى الأدب، وخارج الادب هناك تراتب آخر بين الانواع الفنية..لعل السينما ومن بعدها المسلسلات تحظى بالصعود الأكبر خلال القرن الماضى وخلال ما انقضى الآن من هذا القرن.