فى خطوة مفاجئة أثارت جدلاً واسعاً، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن إغلاق مكاتب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية حول العالم، بما فى ذلك مصر. ويأتى هذا القرار كحلقة جديدة فى سلسلة التوجهات الاستفزازية المتلاحقة التى تنتهجها الإدارة الأمريكية مؤخراً.
أغلق مكتب الوكالة، وفقد مئات العاملين فيه وظائفهم، وتوقفت جميع المشاريع والبرامج التى كانت تمولها، بما فى ذلك حجب المنح الدراسية عن نحو 1100 طالبٍ كانوا يتلقون دعماً من الوكالة للدراسة الجامعية فى الجامعات المصرية. العاملون المصريون فى الوكالة هم من الكفاءات المهنية والفنية والإدارية المتميزة، يتمتعون بخبرات واسعة ومهارات عالية، إلا أنهم وجدوا أنفسهم فجأة دون عمل، وبدون أى التزام أو نية للتعويض أو إعادة التوظيف، مما يضعهم أمام مصير مهنى غامض.
وسينتج عن هذا القرار أيضًا توقف عدد من المشاريع والبرامج التنموية التى كانت تمولها الوكالة، والتى تشمل مجالات حيوية كالصحة والتعليم والبيئة والزراعة والغذاء والحماية الاجتماعية وتمكين المرأة. وسيؤدى هذا التوقف إلى آثار سلبية مباشرة على المستفيدين، إضافة إلى ما قد يترتب عليه من خلل فى قطاعات إستراتيجية مثل الصحة والزراعة والتعليم.
منذ تأسيس مكتب الوكالة فى القاهرة فى سبعينيات القرن الماضي، ساهمت المساعدات الأمريكية فى دعم بعض المشروعات التنموية فى مجالات الصحة وتنظيم الأسرة وتمكين المرأة والتنمية الريفية وريادة الأعمال. ونحن لا ننكر هذا الدعم ونقر بالاستفادة منه. لكننا نرفض فى الوقت ذاته أسلوب «المن والأذي» الذى باتت تمارسه الولايات المتحدة مؤخرا تجاه كل من تقدم له يد العون، وكأن لكل شيء ثمنا، حتى وإن كان بأثر رجعي، كما رأينا فى السيناريو المهين والمخطط له سلفا فى الحوار مع رئيس أوكرانيا، والذى مهد لأمريكا الاستحواذ على كنز المعادن الإستراتيجية فى بلاده.
لطالما كانت المعونات المقدمة من الوكالة الأمريكية وسيلة لتحقيق أهدافها فى التوغل داخل المجتمعات والتعرف على خصائصها وتوجهاتها، وكانت البرامج تصمم وفقاً لرؤيتها وأولوياتها، دون اعتبار حقيقى للإستراتيجيات القومية أو أولويات التنمية الوطنية. كما أن الجزء الأكبر من ميزانيات هذه المعونات كان يخصص للخبراء والمستشارين الأمريكيين، لا للمستفيدين المباشرين.
فى منتصف الثمانينيات، قدمت الوكالة منحة لإنشاء عيادات نموذجية لخدمات تنظيم الأسرة، فاستأجرنا شقة فى عاصمة كل محافظة لتكون مقراً للعيادة. لم يسمح لنا بالشراء، بل فقط بالإيجار، فكنا ندفع أكثر من ألف جنيه شهرياً مقابل شقة لا يتجاوز ثمنها عشرين ألف جنيه، أى ما يعادل إيجار أقل من عامين. كان بالإمكان شراء هذه الشقق والاستفادة منها بعد توقف المعونة، لكن سياسة الوكالة كانت ترفض تمليك الأصول للدولة، لتظل فى حالة احتياج دائم للمساعدة. وكان من الأفضل أيضاً توجيه تلك المنحة لتطوير الوحدات الصحية الأولية المنتشرة فى القري، والتى من الممكن أن تواصل تقديم خدماتها لشريحة واسعة من المواطنين حتى بعد توقف الدعم، على عكس تلك العيادات التى فشلت فشلاً ذريعاً وانتهت إلى الاندثار. ولكن الوكالة لم تسمح بذلك.
صدق المثل القائل: «ماحك جلدك مثل ظفرك»، وأيضاً من قال» من يحرم قوت يومه، حرم حقه فى أن يحلم بالغد.» وقال الله تعالى .. «إعملوا» وقد ذكرت 32 مرة فى القرآن الكريم.