يتصف الأديب الكبير مصطفى لطفى المنفلوطى المولود فى ٠٣ ديسمبر ٢٧٨١ بمدينة منفلوط فى صعيد مصر بأنه صاحب الأسلوب الفريد في النثر الأدبى عبارة وكتابة متميزة فى الوجدانيات.. وكان مولده بعد ٣ سنوات من افتتاح قناة السويس فى عهد الخديوى إسماعيل وقبل نحو ٠١ سنوات من الاحتلال الإنجليزى لمصر بعد ثورة عرابى. .. كان المنفلوطى ظاهرة أدبية لجيله مع بداية القرن الماضى وتأثر فى طفولته بوالده القاضى الذى يعود نسبه إلى الحسين فيما تنتسب أمه إلى أسرة الجوريجى ذى الأصول التركية.. وارتبط والده بعلاقة قوية مع نقابة الأشراف امتدت لنحو عدة عقود.. وتلقى علومه الأولية بعد حفظه القرآن بالأزهر الشريف من خلال مكتب الشيخ جلال الدين السيوطى الذى كان يديره الفقيه محمد رضوان. أحب الأدب والبلاغة منذ صغره من خلال صديقه السيد عبدالله هاشم.
العبرات.. النظرات.. فى ظلال
الزيزفون ومجدولين من أبرز أعماله
وصفه أحمد حسن الزيات فى كتابه
«تاريخ الأدب العربى» انه مؤتلف الخلق متلائم الذوق متناسق الفكر متسق الأسلوب
إمام النثر.. وأمير البيان
سعد زغلول عينه فى الجمعية التشريعية بلا مؤهل
سجنه الخديوى عباس حلمى..
وتوسط الشيخ على يوســف للإفراج عنه
كان من أشد مفكرى وأدباء عصره فى الدفاع عن الهوية محذرا فى وقت مبكر من القرن الماضى من خطر العولمة والذوبان وانعدام الهوية داعياً
يلقب المنفلوطى من أدباء عصره وما بعده بإمام النثر أو أمير البيان فعلى يديه تطور أدب النثر العربى ويعد ظاهرة غير مسبوقة فى اختيار وتنسيق الكلمات بإنشائه وصوره البلاغية المنحوتة البديعة باختيار الكلمات والعبارة الرشيقة التى ألهبت القراء فى زمانه.
أحدث برأى أدباء عصره ثورة فى عالم الكتابة تخلص فيها من ركاكة الأسلوب وبالانفتاح والاقتباس على الغرب.. وشمل أعماله بأوعية لغوية مميزة فقد ساهم بموسوعيته الثقافية اللغوية العربية والفرنسية سواء تلك التى ترجمها بنفسه أو ترجمت له عن طريق آخرين رووهاله من مترجمين أو مستشرقين.. فقد ألبس الروايات الفرنسية اللباس اللغوى الرشيق تفوق به برأي شاعر النيل حافظ إبراهيم علي الغرب مستدلاً بذلك بـ »البؤساء« لفيكتور هوجو التى ترجمها إبراهيم ووقتها قال الأدباء لو ترجمها المنفلوطى نثرا لتفوق بها على إبراهيم..
وقالوا عنه إنه أمير البيان فقد قدم أعماله بأسلوبه الجديد الساحر الآخاذ بمساهمته فى عصرنة الأدب وتجديده سابقاً فى ذلك المجددين الرواد، حيث بدأ حياته شاعرا..
قصيدته.. والسجن
ونظم وعمره 18 عاماً قصيدة طويلة من 150 بيتاً كتبها فى مجلة العمدة التى كان يصدرها عمدة منفلوط وانتهز فرصة عودة الخديوى عباس حلمى من أوروبا وكانت لاذعة العبارات والكنايات.. وهو- أى المنفلوطى- القريب من صاحب المؤيد الشيخ على يوسف وأيضاً من الإمام محمد عبده وفى هذه الأثناء زامل سعد باشا زغلول قبل ثورة 19 إبان الحرب العالمية الأولى.. وعندما نشر القصيدة دخل على أثرها السجن وتوسط الشيخ على يوسف فأفرج عنه وعاد إلى منفلوط لكن هذه المرة مراسلا للمؤيد وبمقال اسبوعى يتصدر الجريدة وبعد فترة عينه سعد باشا فى وزارة المعارف أو نظارة المعارف كما كان يطلق عليها.. ونظم قصيدة أخرى فى مواجهة الاحتلال البريطانى وحاول جنود الاحتلال القبض عليه لكنه هرب واحتضنه فى ذلك الوقت أيضاً الشيخ على يوسف..
النظرات والعبرات
وفى الكتابة العاطفية والشجون التى تميز بها بعد حادث دنشواى بدأت مؤلفاته فى الظهور فأصدر عام 1909 كتابه النظرات ثم بعدها أصدر »العبرات« عام 1912 وتابعها برائعته المعربة فى سبيل التاج لفرانسو كوبيه عام 1920 ثم القصنله عام 1922.. ويقف النقاد طويلا عند رائعته الممصرة الأشهر ماجدولين وتحت ظلال الزيزفون المترجمة عن الفرنسية للفرنسى كارو اضافة إلى مقالاته وأعماله الأدبية فى مجلة الهلال والجامعة وجريدة الفلاح.. وفى سبيل التاج لفرانسوا كوبيه.
وبحسب للمنفلوطى كما يقول الوزير الأسبق فتحى رضوان إنه بعد الحرب العالمية الأولى لم يكن يخلو منزل فى مصر أو وسادة لشاب أو فتاة من كتاب للمنفلوطى الذى نال الشهرة الكبيرة بين الشباب وامتدت أعماله إلى الجزيرة العربية والشام والمغرب العربى حيث حرر الكتابة الأدبية من قيود القوالب بقدرته اللغوية على إثارة المشاعر والشجون.
وظيفة بدون مؤهل
وعند عودة سعد زغلول للجمعية التشريعية توسط للمنفلوطى لتعيينه فى الجمعية وجاء مدير المستخدمين وهمس فى أذن سعد باشا بأن هناك موقفاً يسبب له الإحراج بأن المنفلوطى لا يحمل »مؤهلاً« فنظر سعد إلى مكتبه ووجد كتابين من مؤلفات المنفلوطى وقال لرئيس المستخدمين .. وماذا على مكتبك.. فنظر إلى الكتابين وتم تعيينه فى عشرينيات القرن الماضى.
الدفاع عن الهوية
كان المنفلوطى الذى تأثر بحملات الاستعمار على مصر فى بداية القرن والاحتلال وبحادث دنشواى 1906 وقاده ذلك إلى تمصير القصص الأجنبية من لسان رواه بلغة أوطانهم ونجح مؤلفاً ومترجماً» ومجدداً فى الفكر العربى.
وكان من أشد مفكرى وأدباء عصره فى الدفاع عن الهوية محذرا فى وقت مبكر من القرن الماضى من خطر العولمة والذوبان وانعدام الهوية داعياً إلى السلام.. فى الوقت الذى لم يرفض الانفتاح على الآخر لكن برؤية الحفاظ على الهوية.. وألا يفقد المصرى هويته.
قالوا عنه بعد وفاته الكثير فيذكرنا شيخ الصحافيين الراحل حافظ محمود إن سعد باشا عندما تولى الحكم أراد أن يعينه فى وظيفة كبيرة تليق به.. ووجد مسئول مجلس النواب عقبات أمام اختياره لوظيفه تليق بمكانته.. وخجل أمام سعد زغلول وهو أنه وجد صعوبة فى تعيينه بوظيفة رفيعة لأنه لا يحمل شهادات كما قال المسئول عن التعيين »عاليه« فقد كان المنفلوطى بعد أن أمضى ٠١ سنوات فى التعليم الأزهرى وواستهواه الأدب لجأ إلى الأدب وبرع فيه ونس أن يحصل على مؤهل من الأزهر الشريف وتركه للأدب.
وعندما نظر سعد باشا على مكتبه فوجد بعضاً من مؤلفاته ورفعها للمسئول عن التعيين وقال له من لديك من الموظفين يملك مثل هذه المؤلفات.
اللافت ان المنفلوطى كان يترجم فى الفرنسية وترجم رواياته وكان يعهد لأصدقاء يجيدون الفرنسية مهمة سرد الرواية شفهيا أو كتابيا وأحيانا ينكب عليها صوغا وسبكا وكانت قصصه تخرج من تحت يده غاية فى الطلاوة وأنيقة الديباجة ناصعة اللغة.. قالوا عنه انه صانع البلاغة وكان يُعرب أكثر مما يترجم.. مانحا نفسه الحلول البلاغية واللغوية بجماليات البلاغة.
نجح فى مسألة السرد لكنه لم يكن روائيا بالاستعارة فكل أعماله كانت موضع اعجاب القراء العرب بما حملها من جماليات الانشاء والتأليف ملم بأسرار اللغة وصف العقاد أدب المنفلوطى بأدب التشاجى والترفق العاطفى.. كما عبر عميد الأدب العربى عن أدب المنفلوطى بأنه كان على شغف شخصى بجمالية لفتة وان من يتمعن فى سطور روايات جبران خليل جبران يكتشف عن قرب أثر المنفلوطى فيها اسلوبا ولغة مما يؤكد أن المنفلوطى أول من فتح أبواب اللغة العربية وشبابيكها على هواء عصره وعصر نفسها ونرى ذلك واضحا فى أعماله بين مسرحية سبرانو دوبر جوراك للكاتب الفرنسى أدمون روستان ونصه الروائى الذى كتبه المنفلوطى ستجد كيف عمد المنفلوطى إلى تقديمها كيف منح المنفلوطى لنفسه حرية مطلقة فى السرد والذين أدمنوا قراءة المنفلوطى كأستاذ فى النثر الأدبى يلمسون ذلك ويضعونه فى خط طه حسين وأمين نخلة وابن المقفع وابراهيم اليازجى وفى كتابه النظرات بأجزائه الثلاثة قدم دربا من دروب الأدب الأخلاقى والوعظى.. وتقف هنا عن شاهد مغربى هو الكاتب عبدالفتاح كيليوطو الذى يعرف عن »بركة المنفلوطى« انه اكتشف الأدب على يديه وكان يقلده فى الانشاء والرواية حتى مكن من لامتاكه ناصية اللغة العربية وتعلم منه أسرار صناعة النثر الأدبى ومفاتيحه بلغته الساحرة التى تزداد توهجا مع الأيام.
وحقيقة نجح المنفلوطى الأديب الذى يمر مائة عام على وفاته فى المزج بين روعة الحكاية الفرنسية وحرارتها وبين الأداء اللغوى المميز.. وكان معروفا فى النص المعرب تعم الميم – انه – أى المنفلوطى يتحلى عما لا يخدم فكرته ويصنف ما لا يتعارض معها.
وهنا يقول الطاهر أحمد مكى فى كتابه »الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه« رأى ذوق الجمهور فى مطلع القرن الماضى يختلف عما قبله فانساق فى الترجمة والاقتباس مجدد ومطورا مستجيبا للتطوير الاجتماعى والثقافى.
وصفه أحمد حسن الزيات فى كتابه »تاريخ الأدب العربى« انه مؤتلف الخلق متلائم الذوق متناسق الفكر متسق الأسلوب وتقف عند أديب نوبل نجيب محفوظ الذى كان فى طليعة المعجبين وبار به حتى انه بكى عندما عرف انه صاحب القصص الجميلة التى تسحره وهو صغير فارق الحياة ومال ان اسلوبه جديد وساخر وقام بنقلة كبيرة جدا فى عصر نثر الأدب وتجديده قبل المجددين الرواد. والمازنى أعطاه بعض حقه بعد ان كان يهاجمه فى كتابه »الديوان« عندما قال »ليس من شك فى ان المنفلوطى أصابه حظ وافر من الشهرة واستفاضة من السمعة وان كتبه العديدة تلقى اعجابا وموافقة ليس بها من خفاء«.
لكن العقاد كان ينمى تلاميذه عن احتذاء المنفلوطى فى أدبه الحزين ويقول لهم بلهجة حازمة من كان لديه افراط فى الدمع فليذهب إلى طباخ المدرسة ويشم »البصل« ليخرج ما فى داخله من دموع ثم يكتب شيئا قويا »حزينا باكيا دامعا« لكنه كما أشرت فى سطور سابقة انه اعترف بمكانته فى دنيا الأدب.
بداية مرحلة جديدة
والحقيقة التى تخرج بها عن هذا الأديب البلاغى أمام النثر والبيان انه دشن بداية مرحلة جديدة فى أدب القصة والرواية لم تعهدها بيئتنا العربية ولولا بداية المنفلوطى لما قرأت فى مكتبتنا العربية الثرية أدب محمود تيمور أو فريد بوحريد ونجيب محفوظ ويوسف ادريس واحسان عبدالقدوس ومعروف الأرناؤوطى وشكيب الجابرى وغسان كنفانى »شهيد المقاومة الفلسطينية« واميل حبيبى وعبدالرحمن منيف ووداد سكاكينى وسهيل ادريس وجعفر الخليلى والطيب صالح وموسم الهجرة إلى الشمال وغادة السمان والطاهر وثارو زكريا ثامر ولا تلك هنا إلا القول ان مصطفى لطفى المنفلوطى كان ابن زمانه وعصره وبيئته وثقافته ويحسب له كما يقول الناقد عبدالمحسن طه فى كتابه تطور الرواية العربية الحديثة فى مصر »ان المنفلوطى كان يخلق الرواية المترجمة خلقا جديدا يتلاءم مع ذوق قراءه« وهناك من هاجمه لكن الجميع يؤكدون انه أمام النثر وعلى قلمه ويده تطور الأدب العربى ومازلنا نتذكره بعد قرن من وفاته فى يوليو 1924 وبوفاته أسدل الستار عن تاريخ أدبى حافل لا يزال فى الذاكرة الأدبية العربية خالدا.. لأنه أخلص لموهبته وجود بضاعته.. وصار علامة بارزة فى أدبنا العربى الحديث.