عندما تتوفر البيئة المناسبة والظروف المواتية والجواهرجى الذى يلتقط الدرر الثمينة فيضعها فى مكانها المناسب، ويبذل لها ما تستحق من العناية، ثم يكون إخلاص الموهبة لما منّ الله عليها من ملكات وإمكانيات.
عندما يَحْدث كل هذا، يتبدى للناس الجمال والإبداع فى أسمى درجاته وتتلألأ الثريات المضيئة فى ذروة نورها وعطائها، ويتصل المُرْسِلُ بالمُرْسَلِ اتصال قلوب .
هذا ما يستطيع أن يراه المتأمل وهو يتابع مسيرة قُطب من أقطاب التلاوة القرآنية فى العالم أجمع، ملأ الدنيا بتلاوته الخاشعة الباكية، وشغل الناس بموهبته النادرة المتألقة، وأعطى فى عمر قصير عطاء من عاش دهراً .
إنه فضيلة الشيخ محمد صديق المنشاوى صاحب التلاوة الأشهر والأوسع انتشاراً، والذى يوافق اليوم ذكرى وفاته، فقد توفى فى 20 يونيو 1969م عن عمر يناهز التاسعة والأربعين، حيث ولد فى 20 يناير 1920م كما ذكر فى أحد أحاديثه لإذاعة الشعب المصرية.
أما البيئة الحاضنة والمواتية التى نشأ فيها فقد وُلد فى أسرة من القراء المجيدين للقرآن الكريم فَجَدُّه «تايب المنشاوي» كان حافظا وقارئاً مُجَوِّداً للقرآن الكريم، وأبوه صديق المنشاوى كان كذلك حتى قيل إنه قُبِل هو وابنه محمد فى الإذاعة، لكن الإذاعة كانت فى حاجة لقارئ واحد، ففضّل الأب أن يكون ابنه من يلتحق بالإذاعة، كما أن عَمَّه كان كذلك قارئا مُجيدا، وكذلك أخويه أحمد صديق، ومحمود صديق، إذن فإن قارئنا ولد فى مدرسة من مدارس التلاوة سماها المتخصصون المدرسة المنشاوية، ثم كانت البيئة الأكبر، وهى بيئة «المنشأة» وهى المدينة التى وُلِدَ فيها، والتى تضع قاريء القرآن الكريم فى مكانة رفيعة مثلها مثل بقية المجتمع المصرى الذى يُجِلُّ حامل القرآن الكريم، فما بالنا إذا كان متخصصاً وعلى عِلْم بقراءاته وأحكامه حسن الصوت.
فإذا عدنا إلى نشأته فكما جاء فى حوار نادر له أجرته معه إذاعة الشعب عام 1967م فقد ولد فى مدينة المنشأة محافظة سوهاج وليس قرية البواريك التابعة لها كما ذكرت بعض الكتابات، وقد سافر إلى القاهرة عام 1927م مع عمه القاريء أحمد السيد، فحفظ على يديه ربع القرآن الكريم، ثم عاد- بعد أن أقام مع عمه عاما- إلى قريته ليٍتِّم حفظ القرآن الكريم على يد الشيوخ: محمد النمكي، ومحمد أبو العلا، ورشوان أبو مسلم، وقد وصف المنشاوى الشيخ رشوان بأنه لم يكن يتقاضى عن القرآن الكريم شيئاً.
كان لا يفارق أبيه وكذلك عَمِّه فيقرأ قليلا فى المناسبات حتى قرأ وحده عام 1952م فى محافظة سوهاج، فذاع صيته ليس فى سوهاج وحدها، ولكن فى مصر كلها، وقد وصف صوته بالصوت الخاشع وبالصوت الباكي.
أما الجوهرجى إن صح هذا الوصف والذى لا يتوانى فى البحث عن الدرر الثمينة فكان مدير الإذاعة الأستاذ أمين حماد الذى أَرسل إليه ليتم اعتماده بالإذاعة، وكان ذلك فى رمضان، فاعتذر لأنه لا يسافر فى رمضان، فلم يصبر مدير الإذاعة فأرسل فريقاً فنياً بالأجهزة المناسبة فى ذلك الزمن ليُسَجل معه قراءة يتم اعتماده بها، وكان ذلك فى إسنا حيث كان يُحيى ليالى رمضان بالقراءة بها، وبالفعل تم اعتماده لينطلق إلى ربوع مصر والعالم العربى بل العالمية من خلال الإذاعة.
رب ضارة نافعة
وبالنسبة للظرف المناسب الذى كان وراء تسجيله القرآن الكريم كاملاً مرتلاً ومجوداً فكان ظهور نسخة من المصحف مُحَرَّفة وكانت وراءها إحدى الجهات صاحبة الأهداف، وكانت إذاعة القرآن الكريم قد أُنشئت، وكان رد الرئيس جمال عبدالناصر على النسخة المُحَرَّفة تسجيل القرآن الكريم صوتياً وتوزيعه على الدول العربية والإسلامية، فبدأت تسجيلات المصحف مرتلا، لتنال مصر شرف جمع القرآن الكريم صوتياً كما نال سيدنا عثمان جَمْعَهُ مكتوباً، وقد بدأ التسجيل بالشيخ الحصري، أما الشيخ المنشاوي، فقد جاء بأمر الرئيس جمال عبدالناصر الذى كان محبا لصوته.
ومن الطريف أو من الظروف الخَيِّرَة أن اكتشفت مصر أن توزيع التسجيلات لا يُجْدى لأن الدول المقصودة بالتوزيع لا تملك أجهزة التشغيل، فقررت مصر أن تكون هناك موجة قصيرة وموجة طويلة لتصل إذاعة القرآن الكريم التى كانت مقتصرة على القرآن الكريم إلى كل العالم تلاوة وتجويدا.
سافر الشيخ المنشاوى إلى دول عربية وإسلامية قرأ فيها القرآن الكريم، كانت أولها إندونيسيا التى منحه رئيسها أرفع وسام فيها، كذلك الملك السنوسى فى ليبيا، كما زار الكويت وسوريا وفلسطين، وقرأ فى المسجد الأقصي، وزار السعودية وقرأ فى الحرمين المكى والنبوي، كما زار العراق وغيرها، واشتهر باتقانه مقامات القراءة وانفعاله بالمعانى وكثير ما بكى وهو يقرأ.
شهادة إمام الدعاة
تحدث إمام الدعاة الشيخ محمد متولى الشعراوى عن كبار القراء وما يتميز كل واحد منهم به قال عن المنشاوي: من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن الكريم فليستمع إلى صوت المنشاوي، إنه ورفاقه الأربعة: مصطفى اسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود على البنا والحصرى يركبون مركباً يبحر فى بحار القرآن الكريم، ولن يتوقف هذا المركب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها»، وفيما يميز كل منهم قال الشيخ الشعراوي: الشيخ الحصرى يتميز بدقة الأحكام، والشيخ مصطفى إسماعيل يتميز بِفَنِ الأداء والقدرة على الانتقال من مقام إلى مقام، أما الشيخ عبدالباسط عبدالصمد فيتميز بحلاوة الصوت، والشيخ محمد رفعت ففيه كل ذلك.
وقد تحدث عنه الفنان محمد عبدالوهاب- المطرب والملحن الكبير الذى بدأ حافظا للقرآن ولدية العلم والموهبة والفن الذى يأتى من خلاله تقييمه موافقا للصواب- فى حديث له فقال: فى تقديرى إنه يمكن التعليق على أى قارئ من القراء إلا الشيخ المنشاوى الذى يمثل حالة استثنائية يُحار أمامها الذائق الفاهم، فمن يتأمل مخارج الحروف عنده يَصّعُبُ أن يجد لها وصفاً، وذلك لما مَنحه الله من حنجرة رخيمة، ونبرة شجية تلين لها القلوب والجلود معاً.. وعند ختام التلاوة تراه يستجمع كل إبداع التلاوة فى آخر آيتين بحيث يجعلك تعيش معه أشد لحظات الخشوع على الإطلاق، وما عليك إلا أن تتأمل استرساله ما بين السرعة والتلقائية العجيبة، كما فى سورة الإسراء، والهدوء وخفض الصوت عند قراءته: «كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَي(6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَي(7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَي(8) أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَي(9) عَبْداً إِذَا صَلَّي(10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَي(11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَي».
أما الشيخ محمد الراوى العالم والمفسر للقرآن يقول: كنت أخطب الجمعة فى مسجد الزمالك بالقاهرة وكنت أذهب إلى المسجد وعقلى يذهب هنا وهناك، فإذ وصلت واستمعت إلى قارئ السورة وكان الشيخ محمد صديق المنشاوى سَلَّمْتُ نفسى لقراءته حتى ينتهي، فلا أبالغ إن قلت أشعر كأنى بطارية تم شحنها وأطلع على المنبر بهذه الشحنة.
قال الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إن الشيخ محمد صديق المنشاوي، يسمى «علامة فارقة فى القراءة» ، ونشأ فى بيت من أهل القرآن، وهو بيت الشيخ صديق المنشاوي، الذى كان جميل الصوت، وكان لديه 7 أبناء جميعهم يحفظون القرآن، ونجله محمد ورث منه حسن الصوت وقوة الحافظة، وحفظ القرآن صغيراً، والشيخ محمد صديق المنشاوي، كان فلتة زمانه؛ لكونه كان مؤدباً مع القرآن الكريم، ورغم أنه لم يدرس موسيقى أو مقامات، وعندما يدخل فى مقام فيه قوة يحوله إلى الخشوع حتى صار هناك مقام يسمي- النهاوند المنشاوي-، وهو لم يدرس الموسيقي، وعندما طُلب منه الانضمام للإذاعة رفض وقال: من يختبرنى مشايخى الذين علمونى وليس لجنة تجتمع لتقوم باختباري، وعندما اجتمعت اللجنة استمعت لشريط للشيخ صديق المنشاوي، وشريط للشيخ محمد صديق المنشاوي، انبهروا بهما وأكدوا أنه رجل يفهم الأحكام والتلاوة والأداء والنغم وكل شيء، واعتمدوا الشيخ محمد صديق المنشاوى ووالده.
الشيخ عبدالحكيم عبداللطيف (شيخ عموم المقارئ المصرية) يقول: «إن الشيخ محمد صديق المنشاوى حسنة من حسنات الدهر».
وفاة الشيخ المنشاوي
فى 1966 أصيب بدوالى المريء إلا أنه كان يُصر على التلاوة وبصوت جهورى ولما اشتد عليه المرض نقل إلى مستشفى المعادى ولما علم الرئيس عبدالناصر بشدة مرضه أمر بسفره إلى لندن للعلاج على نفقة الدولة إلا أن المنية وافته قبل السفر وتوفى فى 20 يونيو عام 1969.
حياته الأسرية
تزوج الشيخ محمد صديق المنشاوى مرتين، وقد أنجب أربعة أولاد وبنتين من الزوجة الأولي، وخمسة أولاد وأربع بنات من الزوجة الثانية، والتى توفيت أثناء أدائها لمناسك الحج، وتوفى بعدها بعام فى 1966.
تميز الشيخ محمد صديق المنشاوى بصوته الخاشع وإحساسه بكلام الله- عز وجل-، ومن أهم ما يميزه هو ما يلي:
كان يقدم دروساً فى التفسير والتربية الإيمانية.
شرح كامل للقراءات والوقف والابتداء والتجويد.
يصور المعانى حتى تتحول إلى مشاهد فى ذهن السامع عند قراءته للقرآن.
تلاوته الخاشعة المؤثرة، والتى تصل إلى قلب المستمع وتلين القلوب.
عدم وجود تلاوتين متشابهتين له من كلّ وجه؛ مما جعل أدائه الصوتى مميز.
ظهر محمد صديق المنشاوى وسط كوكبة فى قراء القرآن الكريم مثل مصطفى اسماعيل ومحمود خليل الحصرى ومحمود على البنا ومنصور الشامى الدمنهورى وعبدالباسط عبدالصمد وغيرهم وكانت له قراءات مشتركة مع الشيخ فؤاد العروسى وكامل يوسف البهتيمى وكان قارئا راتباً فى عدة مساجد بالقاهرة ورغم شهرته التى طبقت آفاق الأرض شرقاً وغرباً داخلياً وخارجياً فكان يقرأ لأهالى الموتى الفقراء دون أجر، مما جذب المواطنين إليه إلى شخصه النبيل وذاته المتفردة بتعاليم القرآن ومنهاجه الأخلاقية.
علاقته بأهل بلدته لا تنقطع، وهذه من عادات أهل الصعيد الحسنة، فكان عطوفاً بهم، محبّاً لفقرائهم، حرص على تحفيظ أبنائه القرآن الكريم فى سن الخامسة، ويصطحبهم للمساجد التى يقرأ فيها القرآن، ويراقبهم مرحبا وهم يختارون أصدقاءهم، ويصر على أن يكونوا من الأسر الملتزمة خلقاً وديناً، ويشارك أبناءه فى المذاكرة، ويساعدهم فى أداء الواجبات المدرسية، ويحضر مجالس الآباء فى المدارس التى يلتحق بها أبناؤه، وخلال الإجازة الصيفية كان يشاركهم فى الرياضات مثل السباحة والرماية فى النهار، وفى الليل يقرأ لهم الكتب الدينية التى تناسب أعمارهم، حتى إذا تعوّدوا على القراءة زوّدهم بالكتب وشجّعهم على قراءة المزيد.
كرمته مصر بعد وفاته بمنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى كما اختير قاريء القرآن الاول فى القرن العشرين.
سيظل القارئ المنشاوى من أجمل الأصوات المعبرة الخاشعة التى مرت على العالم الإسلامي، فهو نشيد صوتى بطبعه، وهندسة صوت بالوراثة وبعلم مكتسب،، وبراءة قراءة من شهرة نفاق، مكين أمين بالصوت الخاشع، حفيظ عليم بفيض من عطاءات خالق الصوت.