قال هنرى كيسنجر ذات مرة:
«أن تكون عدواً لأمريكا قد يكون أمراً خطيراً، ولكن أن تكون صديقاً فهذا أمر قاتل» ربما كان هذا القول مبهما حين نشره ثعلب الدبلوماسية الأمريكية، لكن الوضع بات مختلفا الآن، فتفسير هذه المقولة التاريخية نعيشه الآن ولا نحتاج مذكرة شارحة ومفسرة وأصبحنا جميعا نصفق لعبارة كيسنجر العبقرية ونرددها فى صوت واحد، فصديقك الذى يدير علاقاته معك بحماقة أخطر ألف مرة من عدوك الذى يدير صراعاته معك بحكمة وتعقل، الولايات المتحدة قد يكون صديقا مخيفا لا تتوقع أفعاله بسهولة فلا تأمن جانبه وقد يكون عدوا مريحا تستطيع أن تدير معاركك معه مستعينا بوثائق التاريخ أثناء كل الحروب التى خاضتها أمريكا مع فيتنام والعراق وأفغانستان والصومال وسوريا، أمريكا تقود العالم اقتصاديا وعسكريا لكنها فشلت أن تديره أخلاقيا، الآباء المؤسسون للولايات المتحدة كانت طموحاتهم أن تكون الحضارة الأمريكية متكئة على قواعد أخلاقية تحددها مجموعة القيم الأمريكية، ربما كانت الحرية هى ذروة سنام الحضارة الأمريكية نظريا، لكن المتابع المتخصص للتغيرات الجارية داخل المجتمع الأمريكى ربما لاحظ أن هناك جلطات فى شرايين القيم الأمريكية مجتمعة، فالحرية والمساواة وقبول الآخر وحقوق الإنسان وكل مبادئ النيوليبرالية تتعرض لعمليات تجريف غير مسبوقة، فالانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين ليس خلافا حول تكتيكات الحفاظ على الثوابت وأنما تحول إلى خلاف حول الثوابت ذاتها، فقضية الحريات باتت موضع خلاف حقيقى بين الأمريكيين، هذا الخلاف لا يرتبط بآليات ممارسة تلك الحريات بل وصلت إلى حد الخلاف حول تعريف الحرية ذاته، وهكذا باتت الخلافات جذرية وليست فرعية كما يظن البعض، من هنا يجب أن ننتبه الى تلك التغيرات الداخلية فى المجتمع الأمريكى الذى انتقل من فكرة «سيادة العالم» إلى فكرة «أمريكا أولا» وهذا كله يؤثر على كل ملفات الإقليم المشتعل الذى نعيش فيه، وهنا أعود إلى حكمة كيسنجر واحاول الربط بينها وبين علاقة الصداقة القوية والإستراتيجية التى تربط أمريكا وإسرائيل من ناحية، وعلاقة العداء الشديد والإستراتيجى بين أمريكا وإيران، وهنا نرصد المعنى الحقيقى لكونك صديقا للولايات المتحدة وكذلك المعنى الدقيق لكونك عدوا لها، هنا يمكن القول إن «أمريكا تدعم إسرائيل بحماقة وتعادى إيران بحكمة» هذه الصداقة القاتلة وهذا العداء الباهت يقودنا إلى مربع «الملل الإستراتيجي» الذى يعكس صداقات عشوائية ليس لها أفق وبالطبع دون شروط، وبين عداوات مدارة بحيث لا تخرج عن الإطار المخطط والمرسوم، ومع طول فترات الصداقة الحمقاء أو العداء المزركش بألوان الطيف يتولد لدى الناس حالة ملل طوييييييلة يمكن أن نطلق عليها.
«الملل الإستراتيجي» أو «الملل المُخطط « فالصراع العربى الإسرائيلى والصراع الإيرانى الأمريكى والتنافس الصينى الأمريكى والعداء الروسى الأمريكى ويضاف اليها الملفات الليبية والسودانية واليمنية والسورية جميعها باتت ملفات أو أزمات مملة حقا مملة.