الفقه الإسلامي يعتبر القاطرة التي تقود المجتمعات نحو منهجية التسامح والتعايش والبناء الفكري الإصلاحي الذي يؤمن بقيمة التعددية والتكامل.. ورغم أن الفقه الإسلامي قام على تلك المبادئ إلا أن بعض التيارات المتشددة انحرفت بالفتاوى ناحية العدوان والقتل.. مما طرح العديد من الإشكاليات حول حاجة الفقه الإسلامي الى التنقيح والتجديد.. والعديد من القضايا التي ناقشتها الجمهورية في حوارها مع المفكر الفقهي الكبير الدكتور سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر.
> هل الفقه التراثي قادر على تلبية التطورات المجتمعية؟
الفقه التراثي لم يُقدم نفسه على أنه دين، بل هو تدوين لفهوم السابقين الذين كتبوها في كتب وصنفوها وسميت «كتب الفقه المذهبي»، ولكنهم لم يلزموا الأجيال التي تأتى بعدهم بتلك النتائج التي توصلوا إليها في اجتهاداتهم، ولكنهم تركوها ليستفيدوا بها وإفادة الغير، دون إلزام سواء في «كتب العقيدة» أو كتب المذاهب الفقهية أو التفاسير أو شروح الأحاديث النبوية، فتم تدوينها باعتبارها طرحا تعليميا للمستقبل وليس طرحًا دينيًا مقدسًا، فالخطأ فيمن يقرأ ذلك ويظن أنه كلام الله، ولكنه في الحقيقة رؤى تنير لنا الطريق وعلى الإنسان أن يأخذ قراره اللائق بزمنه ومتطلبات عصره.
> الفقه الإسلامي هل يحتاج إلى تنقيح؟
كُتب التراث والفقه مليئة بالمسائل والأحكام المتعارضة وبعضها يليق في زمن وبعضها يليق في زمن آخر، وبعضها يليق مع أناس، وبعضها لا يليق مع أناس آخرين، فبعضها نعتبره الآن تطرفًا وكان في زمن من الأزمنة عين الاعتدال، فنحن نعتبر بعض الأشياء منتهى التسامح، وغيرنا يمكن أن يراها تضييعًا للدين، فالحكم أن هذا تطرف أو تسامح حكم نسبي، وليس حكمًا قاطعًا، فعلى سبيل المثال إن ذهبنا الى سوريا بعد الأحداث الاخيرة نجد تيارين مختلفين، أحدهما: سنى، والآخر علوى، وكلاهما يعتبر الآخر متطرفاً رغم أن كليهما يُعَبِّرعن أفكار فقهية مختلفة تؤيد قناعته ونمطه، إذن الانسان هو الذى يختار وينتقى ويلتقط الأفكار الفقهية التي تعبر عن البناء العقلي عنده، فإن كان بناءً عنيفًا فإن الأفكار المتطرفة تقوم على أيديولوجية، وأيديولوجيتها العنف، وإذا لم تجد رأيا فقهيا يؤيدها ستختلق وتفتعل أسسًا فقهية من أجل إيجاد نفسها، وإن وجدت تفرح لأنها وجدت من يسند طبعها، نفس الأمر مع الإنسان المتسامح ، وفي هذا العصر توجد تيارات مثل الورم السرطاني يتحدثون عن أنفسهم أنهم «الفرقة الناجية» وينتقون من بين الآراء الفقهية ما يليق بعنفهم وتطرفهم وظلمهم ليقنعوا الاخرين أنهم على الحق وأن كبروا في أعدادهم يمكنهم خوض حرب اهلية ويتبعهم من يتفق مع افكارهم وطبيعتهم ويصبحون تكتلا.
>إذاً ما هى أبرز تحديات الفقه الإسلامى فى العصر الحديث؟
البعض يعتبر الفقه الإسلامي هو الإسلام، وهذا خطأ فالفقه الإسلامي هو فقه أصحابه وليس فقه الإسلام، فالإسلام لم يصنع فقها، فالإسلام نزل به قرآن وأمرنا أن نؤمن بالله ورسوله، ولو أدركنا أن الفقه عبارة عن رؤى أصحابه ومنسوبة إليهم وليست منسوبة للإسلام، فالفقه متعدد الآراء والدلائل، وكل دلالة فيه تسمى فتوى، فالفتوى هي الرأي المختار بين آراء فقهية، وعلى سبيل المثال هل البخاخ يفطر اثناء تناوله في نهار رمضان ام لا؟، فهذا السؤال له رأيان، الأول: يقول إن البخاخ يُفطر الصائم لأنه دخل إلى الفم، أما الرأي الآخر يقول إنه ليس مُفطرا لأن البخاخ يدخل على القصبة الهوائية لأن حكمه حكم الهواء وليس حكمه حكم الماء أو الطعام الممنوع على الصائم، ولكن الفتوى في ذلك رأى واحد فقط، ولذلك أؤكد ان الفقه هو الآراء المختلفة والفتوى هي الرأي المختار ما بين الآراء المختلفة، فمشكلتنا وتحدياتنا في هذا العصر أن الفقه يموت، والذين درسوا الفقه هم من يميتونه ويكتفون بالفتوى.. فالفقه تعددي واختصاره الفتوى، فعلى سبيل المثال إذا أرادت امرأة أن تذهب لأداء العمرة وفجأة أصيبت بعذر شرعي فالفتوى تقول يجب ان تكون متوضئة للطواف ودخول الحرم، أما الفقه له ثلاثة أراء، أولها: إنه يجب أن تكون متوضئة لعمل الطواف.. والرأي الثاني أنها يمكن ان تتحفض وتطوف ولكن لا تصلى وتأتى بعمرتها كاملة وعليها هدى.. أما الرأي الثالث يقول ان تتحفظ وتطوف ولا تصلي لأن العمرة ليس بها صلاة وهي عبارة عن طواف وسعى والسعي لا يشترط فيه طهارة ولهم في ذلك ادلة ان الطهارة تشترط فقط في الصلاة، وهذا ما تعلمناه في الازهر الشريف، ولكن أن يقال رأى واحد فقط في هذا الأمر فهذا هو تحدى من التحديات التي يواجهها الفقه الإسلامي، وهناك أيضا مثال آخر: إن توفى ومرأته في شهور العدة، فهل العدة تمنعها الخروج من البيت، فالفقه يقول رأيان، الأول: تخرج وتبيت وتسافر حيث تشاء فالممنوع عنها الزواج فقط، والرأي الآخر: لا تخرج من بيتها إلا بعد 4 أشهر و10 أيام حتى لو كان عمرها 100 عام ولا تبات خارج منزلها، فأصبح هناك رؤيتان لمبيت الأرملة أثناء شهور العدة، فلو قمنا باختيار رأى دون آخر ففي هذه الحالة تكون فتوى، ولكن سيدنا النبي عليه افضل الصلاة والسلام أمرنا في فقه الدين المتعدد الآراء أن نرحم خلق الله، كما أن فقه الدين حق للجميع.
> الخطاب الديني لا يزال بمثابة اللغز الذى يحتاج الى فك طلاسم.. فما هي رؤية حضرتك لتحقيق عملية تجديد الخطاب الديني؟
المتحدثون في فقه الدين الإسلامي قدموا أنفسهم على أنهم الدين نفسه، ولم يقدموا أنفسهم على انهم حال المسلمين الذين يفهمون ويخطئون ويصيبون ويحاسبون، فالخطاب الديني الجديد هو ان نعرف ان هؤلاء بشر يخطئون ويصيبون ويحاسبون ولا يوجد أي تمييز لهم باسم الدين، فالرسول عليه افضل الصلاة والسلام تم مراجعته وهناك عشرات الامثلة في كتب التراث لذلك واشهرهم القصة الشهيرة لخويلة بنت ثعلبة التي اشتكت الى الله وانزل فيها آية (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله)، إذن لغز الخطاب الديني في كهنوته، والكهنوت الموجود هو أن المتحدث بالخطاب الديني يستقي مركزه ومنصبه في عدم مراجعة كلمته، أو مناقشته في حلال او حرام ولكن الحل له ان نقول إنك انسان تخطئ وتصيب، ودليل ذلك ان هناك آراء تم اخذها من مذهب أبى حنيفة ولم نأخذها من مذهب الشافعي، لأن الرأي يختلف بالنسبة للشخص الذى يناسبه وما لا يناسبه، وعلى سبيل المثال يقول تعالى: «فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف»، فإن كانوا اختين تأخذان الثلثين والبنت منفردة لها النصف، والنصف الآخر لم يَذْكره رب العالمين، ولم يذكره الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، والفقهاء اجتهدوا ليعلموا مصير النصف الآخر، فكان رأى الحنفية والحنابلة أنه يُرد الى البنت فتأخذ النصف فرضا والنصف الاخر ردا، أما الرأي الثاني للمالكية والشافعية والظاهرية فقالوا يذهب النصف الآخر إلى بيت المال وهذا يبين أننا من حقنا نختار الرأي الذى نريده، وليس من الضروري أفرض على المجتمع شيوخاً لهم السمع والطاعة.
> تعرضون المسائل الفقهية بأسلوب عصرى لكن هذا العرض يجعل البعض يصف أراءك بأنها مثيرة للجدل.. كيف ترد على ذلك؟
إثارة الجدل عراك فقهى والمقصود بالجدل رفع المستوى العلمي، وهو أمر إيجابي وسيحدث حراكا إيجابيا في المجتمع.. فالشيوخ والفقهاء والمفسرون تفسيرهم ليس في منزلة كلام الله، فكلام الله نسميه شرع، ولكن فهم كلام الخالق نسميه فقهاً وذكر آراء منسوبة لأصحابها
> من الفتاوى المساواة بين الرجل والمرأة في المواريث، فهل تلك الفتوى اجتهاد شخصي أم إظهار لحكم فقهي قديم؟
الله عز وجل قال في كتابه العزيز (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)، ففي هذه الآية يوصي الله عز وجل القوى بالضعيف، ويطالب الذكور الوقوف بجوار أخواتهم البنات فيمكن لكل اخ واخته ان يقتسما سويا «إنسانيا وبالتراضي» مال الميراث، فأنا اقصد التراحم بين الاخوة وليس تغيير شرع الله، وهناك من يحاول أن يسئ الفهم، ويطلقوا شائعات أنني أضرب الثوابت، رغبة منهم إخفاء المعنى الجميل للتراحم.
> هل تواجه ضغوطا او انتقادات من بعض رجال الدين بسبب آرائك الفقهية؟
نحن نعيش دولة قانون ولا يوجد أي ضغوط ضدي فأنا أتحدث بالفقه والرأي يرد عليه بالرأي والحجة.
>برأيك هل الإسلام يحتاج إعادة تفسير ليواكب الدولة الحديثة؟
كتب التراث يوجد بها دين وليس دولة، ويكذب من يقول إن الاسلام دين ودولة، يقول الله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) فالذي أدخل الدولة في الدين أقحم في الدين ما ليس فيه ويجب ان يُحاسب، ويؤسفني أن الذين قالوا ذلك اقنعوا الناس بكلامهم فظلموا الإسلام، فالدين له علاقة بين العبد وربه وليس بين الانسان والانسان.
> دعوات إعادة تفسير بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة مثل الطلاق، النفقة، والشهادة والمحاكم.. فهل تلك الدعاوى لها سند شرعي؟
النصوص شرع والفهم فقه، فلا خوف من إبداء الرأي، لأن الفهم يُنسب للعبد وليس للشرع، فحينما يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»، أي على رأس عدتهن، فقد ربط الطلاق بالعدة وأن أي طلاق يعقبه عدة، فنحن نسأل أنفسنا هل الطلاق لا يعتبر طلاقا إلا إذا أعقبه عدة، المنطق يقول: إن العدة تبدأ من وقت الطلاق، ويترتب عليه أن الذي تزوج بطريقة رسمية يقع طلاقه منذ لحظة تلفظ الزوج بكلمة الطلاق، لكن إذا ذهب الزوج لتوثيق الطلاق عند المأذون فالسؤال هنا هل العدة تبدأ من وقت تنفيذ الطلاق رسميا، أم تبدأ من وقت وقوع لفظ الطلاق؟، فنجد العبرة بعد تحرير الأوراق الرسمية للطلاق.. إذن العدة الحقيقية التي يعتبرها المجتمع والدولة تحميها منذ إتمام التوثيق، والسؤال عن الفترة بين التلفظ بالطلاق والتوثيق تحتاج الى حكم فقهى، فهل نعتبرها مطلقة تحت الحساب، أم نعتبرها زوجة أم معلقة.. وهل إذا توفي الزوج خلال هذه الفترة يكون لها حق ميراثه؟.. وهل توجد لها نفقة في هذه الفترة.. وهل إذا التقاها الزوج يلتقى بامرأة اجنبية ام يلتقى بها كزوجة..فما حكم هذه الفترة التي تحتاج الى حسم، فإن الاسلام لم يحسم هذه المسألة، وإنما الذي يحسم هذا الجدل هو الفقه، وهذا الفقه يراعى المصلحة، فالمرأة في هذا التوقيت تبحث عن مصلحتها فهي إما زوجة أو لا زوجة.
فالرأي الذي يعتبر الطلاق الشفوي طلاقاً رسمياَ وشرعياًَ هو رأى فقهى يتبناه الأزهر الشريف أي عند التلفظ بالطلاق يعتبر طلاقاً رسمياً وليس بالأوراق الرسمية.
فإن قام رجلا بالمزاح مع زوجته وأرسل لها قسيمة طلاق على الواتس على سبيل المزاح فقد وقع الطلاق لأنه طلاق رسمي فالعدة بدأت بالأوراق الرسمية.
فالزوجان عند الزواج كان شرطهما ان يتزوجا على يد مأذون لضمان حق الزوجة، إذن لا طلاق بدون مأذون «فالمعروف عرفا كالمشروط شرطا» فالكلام الشفوي يعتبر لغواً، فلو قال لها طالق 300 مرة لم يقع الطلاق، ويعتبر يمين لغو فكم من بيوت خربت بسبب لفظ في وقت عصبية وندم عليها الزوج، فالحلال والحرام أمور فقهية ونحن نسعى للاجتهاد فمسئولية حل المشكلة هم الفقهاء.
>ما رأيك في دعوات منح المرأة حق تطليق نفسها دون حاجة للجوء الى القضاء؟
نحن نسعى إلى تضيق الطلاق، فكيف نسعى إلى توسعة الخلع، فالاتجاه لصالح الأسرة، والمستجدات التي تليق بزمننا فإن الفقه يستوعبها ولكن أهل الرأي عليهم البحث عن المصلحة، ولا شك أن المصلحة تقتضي المحافظة على الاسرة والتضييق على الأمور التي تؤدي إلى تفتيت الاسرة، وآمل يوماً من الأيام ان نكون مثل دولة المغرب لا طلاق إلا بالقضاء ولا زواج إلا بمأذون المنتدب عن القضاء.
> هل حق الكد والسعاية يحتاج الى تشريع قانوني؟
>> حق الكد والسعاية غير موجود حاليا في مصر ولكن موجود في دولة المغرب، ويمكن أن يبدأ في مصر بمراحل تدريجية، فالمرحلة الأولى تندرج بفتح مجال التراحم ما بين الأزواج وبعضهم عند نشأة الزواج.. فإن من بداية الزواج يتفق الزوجان على حق الكد والسعاية بالنسب التي يتصالحان عليها فالتراحم لكل من الزوجين كل منهما يمنح الآخر بالطلاق أو الوفاة نصيب من ماله الخاص في مقابل مؤازرة كل منهما الآخر.