حياته تشكل سيفمونية ورمزية هوية عن الشعب المصرى وتعايشه كنسيج واحد، نهل طعم ومذاق الوحدة الوطنية الذى يتسم به شعب مصر العظيم فى الحى الشعبى الشهير الذى شهد طفولته وحياته مع عائلته التى تعود جذورها إلى مدينة سنورس فى الفيوم حيث الجد الأكبر.. كما عرف بجده لوالده شيخ الصاغة حيث الأزهر الشريف روح الإسلام السمحة والمواطنة.. ومن هنا اكتسب صفة أنه رمز مصرى فى هدفه الذى حمل شعار الوحدة الوطنية القضية التى كرَّس لها حياته، كما قال فى كتابه المهم «أقباط لكن مصريون» وكتابه الثانى المهم أيضاً «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» بالرغم من أن أدبيات الانتماء والمواطنة تنضح مع الشعر الأبيض لكن عنده كانت وسط حماس الشباب بدأت مع المعلم عريان الذى علَّمه فى بداية حياته ثم بعد ذلك فى مدارس الأحد وقربه من نظير جيد «البابا شنودة» بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية والأنبا صموئيل.. وغيرهم من رموز الأخوة الأقباط فى مصر.
أدبياته فى الحياة لخصها فى كتابه الأعمدة السبعة والشخصية المصرية والتى أشار فيها إلى أنه تزوج أربع زوجات ويدين بالمسيحية التى تقبل بزوجة واحدة فقط.. حياته منذ نشأته ترسم خريطة للحياة فيه، وهو الكتاب الذى تم اختياره أيقونة مؤتمر شباب العالم فى شرم الشيخ فى دورته التى نظمت فى مدينة السلام «شرم الشيخ» 2018 برعاية وحضور الرئيس عبدالفتاح السيسى وجاء الاختيار رمزية مهمة للدولة المصرية ورؤية لتجسيد المواطنة كما يعرفها أبناء مصر أمام شباب العالم بكل انتماءاته الدينية واللا دينية.. ولم لا وصاحب المؤلف «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» هو نفسه مَنْ عاش حياته يدعو للمواطنة وينمى الهوية والانتماء للوطن.. فهو الدكتور ميلاد ميخائيل حنا الفيلسوف والمفكر الذى درس هندسة العمارة وبناء الجسور والكبارى والمبانى.. وفى نفس الوقت حرص على أهمية تنمية العقل والإدراك للمواطن بالثقافة والتعليم.
انحاز للبسطاء وهو حفيد شيخ الصاغة بالأزهر الشريف اقترب من الفقراء.. رضع وشبع من الحنان العائلى من أمه الثرية بنت جرجس مترى.. وتأثر بجغرافية السكن فى عمارة جده التى تطل على كنيسة العذراء فى مسرة فهى خلف مبنى الكنيسة وأجراسها وعلى مقربة منها المسجد بمآذنه.. صلاة هنا وقداس هناك طفولة بريئة لا تعرف التطرف ولا تعرف الفتن فى منطقة وحى شعبى هو الأشهر فى مصر ويعيش فى شياخة الشوام المميز فى هذا الحى الشعبى الشهير القريب من أشهر ميادين مصر فى الثلاثينيات «باب الحديد» أو رمسيس.. عرف الشارع المصرى الدكتور ميلاد حنا عبر مسارات متعددة منذ ولادته فى 24 يونيو 1924 فى فترة مهمة من تاريخ مصر والتى كانت قد انتهت للتو من ثورة 19 وإرهاصات أول دستور للدولة المصرية.. نشأ وسط أسرة قبطية والده يعمل موظفاً بالسكك الحديد وعرف عنه طيبة القلب وحلو اللسان فى حى مسرة أو شياخة الشامية.. وتوفى والده شيخ الصاغة القريبة من الأزهر الشريف رمز الوسطية.. ووجد الأب ميخائيل نفسه مسئولاً عن أسرة باعتباره الابن الأكبر الذى يتكفل بهم بنين وبنات.. وهنا وسط هذه التركيبة عرف الدكتور ميلاد معنى التكافل الاجتماعى والذى زرع فيه الترابط الأسرى.
كان طموحه للتفوق مبكراً رغم أنه طفل مدلل له شقيقة واحدة ومع المعلم عريان «عريف الكنيسة» وكان ضريراً حفظ القداس عن ظهر قلب ومن مدرسة شبرا الابتدائية إلى مدرسة التوفيقية الثانوية مع رحلة التعليم والتفوق إلى كلية الهندسة إلى البعثة فى أوروبا عام 1947 وفى أسكتلندا تعرف على الطلاب المصريين وبينهم الوزير السابق للإسكان مصطفى الحفناوى وآخرون كما تعرف على أقطاب السياسة فى إنجلترا التى كانت الحركة الوطنية المصرية تشكل لها صداعاً فى نهاية حكم الملك فاروق بالاستقلال التام وبعد تأسيس الأمم المتحدة ودخول الحرب الباردة وآثارها عاش ميلاد بين فكر الطالب الذى لم ينس شبرا بكل ما فيها وسط آلام غربة لا تريحه لأنه قريب من البسطاء والفقراء وعليه أن يعود ناجحاً أمام الجهة التى تتحمل تكاليف بعثته وهى وزارة النقل «الطرق والكبارى».. لمع اسمه فى جامعة سانت أنداروس فى أسكتلندا وتم اختياره سكرتيراً للجمعية الطلابية ومن خلالها التقى رئيس وزراء بريطانيا «كلمنت انكى» وبالمفكر الاشتراكى مستر أرنست بيفن وزير الخارجية ورئيس حركة النقابات العمالية فى ويلز مستر انارن بنفيان الذى صار وزيراً للصحة وأنشأ أول منظومة تأمين صحى متكاملة فى بريطانيا أواخر الأربعينيات ومع الثورة من المواقف المهمة اختياره لعضوية التنظيم الطليعى ثم مر بمراحل مختلفة عندما دعاه صديقه خالد محيى الدين للانخراط معه فى حزب التجمع.
له رؤية مصرية دولية فى مجال الإنشاءات بعضويته للمجلس الأعلى لنقابة المهندسين 75-70 وزميل جمعية المهندسين المدنيين فى بريطانيا وبحوثه العلمية معروفة فى العالم عبر ترجمتها إلى اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية.. عضويته فى جمعيات الصداقة مع الدول الإسكتلانافية قادته إلى بناء شخصية معمارية دولية وحاز على جائزة سيمون بوليفار وجائزة أخرى من السويد وكان يرى وقد عبر فى أكثر من حوار عن تحذيره من حكم الفاشية الدينية التى تقسم الشعب وأن شعب مصر من قدم الحضارة لم يعرف الانقسام على أساس العرق أو الدين لأننا أمة بنسيج واحد وأن نجاحنا فى مصر هو الوحدة الوطنية، ودخل البرلمان معيناً بعد أن فشل مرشحاً وتفرغ فى أعماله الثقافية التى شارك فيها فى الندوات وكان ظهوره لأول مرة فى مظاهرة بعد نكسة 1967 ومنها تعرف على شعراوى جمعة وأصبح قريباً من صُنَّاع القرار لكنه لم يتغير وظل طوال حياته حتى وفاته وعمره 88 عاماً قريباً من البسطاء ومهموماً بالمسكن الملائم وأن مصر دولة حضارة وتاريخ لا يستطيع أحد أن يغير نسيجها الوطنى.. ومات وهو يردد هذه العبارة وعندما مرض كان طبيبه واحداً من أمهر أطباء المسالك فى مصر هو النابغة حازم ترك الأستاذ بقصر العينى.
النشأة
ولد فى حى شبرا فى 24 يونيو 1924 من أسرة متدينة تنتمى إلى الطبقة الوسطى كان والده ميخائيل حنا موظفاً بالسكك الحديد وتنتمى جذور العائلة إلى سنورس بمحافظة الفيوم.
والدته «حكيمة» وهذا هو اسمها وليس وظيفتها يقول د.ميلاد كانت اسماً على مسمى فقد كانت لها علاقات جيدة مع الجيران فى الحى الذى يعيش فيه وحب الناس واكتسبت منها حب الاختلاط مع الناس وأدركت قيمة المسئولية.
ويشاء القدر وسط هذه الظروف العائلية أن والد والدته الثرى والملقب بـ «الخواجا» جرجس مترى وكان هذا اللقب يطلق على أثرياء الأقباط.. وقد كانت طفولته بها عطاء وحنان عاطف بارز أثرت على بناء شخصيته المتصالحة مع النفس والمملوءة بالبساطة وحب العلم ومن هذا «الشبع العاطفى» بالحب والحنان الأسرى عاش د.ميلاد الحفيد الأكبر لدى أسرة والده وأمه.. وكانت جدته «سالومة» وعمته «أنيسة» وسمسومة يغمرانه بحب كبير.
الطموح المبكر للتفوق
كل هذا دفع الصبى ميلاد حنا للتفوق علاوة على دعوات جدته «جيه» وأمه التى كانت تعنى قديسة.. فى نفس تفوق العائلة الكريمة والحنان عليه وتشجيعه وانضمت إلى قافلة التشجيع فى العائلة خالته جليلة شقيقة والدته والتى تكبرها بسنوات قليلة كانت قطعة من الجمال بعيون «زرقاء» وبشرة بيضاء.. وجمعت بين العيون الزرقاء.. وارتبط بها جداً.
عندما كبر ميلاد وسط كتلة حب وحنان عائلى كان له شقيقته الوحيدة «نرجس» لا تتأخر عن طلبات حفيد العائلة الأكبر شقيقها د.ميلاد.. واستمرت على ذلك طوال حياته حتى أن زوجته قالت له «والدتك وأختك وخالتك أفسدوك بالدلع» كما يقول ميلاد فى مذكراته بالمصرى اليوم للزميل مصباح قطب والمنشورة فى 1 يونيو 2018 وأضافت زوجته وأنا التى تدفع الثمن كنوع من المزاح العائلى.. الحنان العائلى للدكتور ميلاد تمثل فى أن العائلة تقطن فى شقق متقاربة فى شبرا وفى منطقة تحمل أسماء شامية معروفة حتى اليوم بـ «قصور الشوام» أو شياخة الشوام حول شارع مسرة وبه كنيسة العذراء والموازى لشارع خلاط حيث ولد فى العمارة رقم 13 بالشارع نفسه وكان يملكها جده جرجس مترى والد والدته وتطل على حوش كنيسة مسرة.
حياته مع المعلم عريان
وعندما بلغ العاشرة من عمره سلَّمه جده إلى المعلم عريان وكان ضريراً ويعمل «عريف بالكنيسة» وهو الذى حفظه القداس عن ظهر قلب كما يقول د.ميلاد ويقود جوقة السمامسة ويلقن الكاهن صلوات القداس إذا نسى أو تعثر.
شبرا الابتدائية
وشاء القدر عام 35 بعد نجاحه فى الابتدائية بمدرسة شبرا الابتدائية القريبة من مسرة أن ينتقل إلى مدرسة التوفيقية لدراسة الثانوية العامـــة حيــث كانـت نظـم التعليـــم الروضــــة 3 سنوات والابتدائية 4 والثانوية 5 سنوات وتسمى «البكالوريا» ومع زملائه وعلاقاته بالشباب الطلاب بسنه اشترك فى مجموعات «قداس الأحد» فى مرحلة فكرية جديدة من حياته وعمره 11 عاماً وفيها عاش مرحلة التدين الفكرى بعد أن عاش مرحلة التدين التلقينى المبكرة مع المعلم عريان وفى مدارس الأحد.
وهنا اكتشف أنه عضو فى جماعة من الشباب ويهتم بقضايا الكنيسة والأقباط وكان من أقرانه من قاد الكنيسة بعد ذلك قداسة البابا شنودة بابا وبطريرك الأقباط منذ 1971 والذى كان اسمه قبل الرسامة «نظير جيد» ويدرس التاريخ فى كلية الآداب.. وتعرف د.ميلاد على طريق الشباب إلى الأديرة كرهبان وكان فى الطريق إلى أن يكون أسقفاً.. وكان له زميل فى نفس الفترة فى مدرسة التوفيقية.. هو الأنبا صموئيل أسقف الخدمات وكان قبل ذلك اسمه «سعد عزيز».
وحزن د.ميلاد يوم اغتيال الرئيس السادات وقد اغتيل صديقه الأنبا صموئيل فى حادث المنصة الذى ارتكبته الجماعة الإرهابية فى حادث 6 أكتوبر 81 والذى عرف إعلامياً بحادث المنصة على يد الجماعة الإرهابية.
وكان ميلاد الأول على كلية الهندسة عام 1945 والتحق بوظيفة معيد بالجامعة وعام 47 فاز ببعثة إلى لندن عاصمة الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس عام 1947 وحاز على الدكتوراة فى الهندسة عام 50 ما بعد النكبة وخلايا الضباط الأحرار تجتمع فى القاهرة وكان أول من حصل على الدكتوراة من طلاب مدارس الأحد فى الهندسة.
وكان د.ميلاد مبهوراً بشخصية مكرم عبيد الذى كان نائباً عن شبرا وممثلاً لحزب الوفد ويعد واحداً من ملامح الحركة الوطنية المصرية وسط الانقسامات الحزبية الحادة فى هذه الفترة قبل الثورة عام 1952. وعندما وصل لندن أحس الفتى الذى شبع من حنان الأسرة وعاش فى حى شعبى بشىء من الغربة والوحدة وفى أكتوبر 1947 سافر إلى لندن وعاش ثقافة الغرب واندمج معها وهى بيئة مختلفة تماماً عما تربى عليه فى الحى الشعبى.. وكان سؤاله لنفسه كيف أعيش بعيداً عن الكنيسة القبطية فى عاصمة الضباب وعن حى شبرا الذى امتلك فؤادى ووجدانى.
وفى الجامعة تزامل مع على كامل عميد هندسة عين شمس فيما بعد ومصطفى الحفناوى وزير الإسكان الأسبق وهما أكبر منه سناً وانعطفوا عن التعليم فى سنوات الحرب وصار ملازماً لهما فى انفتاح ثقافى مع الفرسان المصريين الثلاثة كما كان يسمى.. وبين حضارة مختلفة عاش وعكف على القراءة المكثفة فى الهندسة كما تعامل مع أهل أسكتلندا داخل كنائسهم.
حتى تم انتخابه سكرتيراً لجمعية الطلاب وكانت منتسبة لحزب العمال البريطانى وتعرف على نائب داندى «جون استراتش» وكان وزيراً للتموين وتعرف على عدد من الشخصيات العامة التى كانت تدير سياسة بريطانيا وفى مقدمتهم «كلمنت انكى» رئيس الوزراء والمفكر الاشتراكى ووزير المالية ومستر ارنست بيفن وزير الخارجية وكذلك زعيم حركة النقابات العمالية والمناجم فى ويلز مستر انارن بنفيان زعيم الجناح اليسارى الذى صار وزيراً للصحة وأقام أول نظام تأمين صحى فى بريطانيا أواخر الأربعينيات.
مضت سنوات الدراسة سريعاً وكان قد انبهر بفكر الاشتراكية الدولية وحاز على الدكتوراة وعمره 26 عاماً ونجح فى الالتحاق بجمعية المهندسين الإنسانيين المدنيين بلندن حتى عاد إلى القاهرة فى يناير عاد حاملاً الدكتوراة وتوجه إلى مصلحة الطرق والكبارى التابعة لوزارة النقل التى مولت بعثته.
عرف فى الوزارة أنه بعد حصوله على الدكتوراة سيكون على ذات الدرجة الحكومية براتب شهرى 16.5 جنيه أى مثلما كان عليه عام 1947 ومعناه أنه سيكون أقل راتباً من زملائه فى الدراسة.. وتم توجيهه للإشراف على بعض الجسور فى سوهاج.
بينما استلم عمله على بعد 550 كيلو من شبرا محبوبته فى الصعيد الجوانى وخلال إقامته فى سوهاج قامت ثورة يوليو.
كان ميلاد حنا محظوظاً فبينما يبحث عن فرصة للعمل فى هندسة جامعة عين شمس الوليدة وإذا به يحصل على منحة صيفية فى أكبر معهد للهندسة فى أمريكا ماساشوستس للتكنولوجيا MIT وهو من أرقى معاهد الهندسة فى العالم بمدينة بوسطن الأمريكية.. وكانت تجربة جديدة عبر إنجلترا ومدنها وأحس بالتمييز العنصرى بسبب لون البشرة كما يقول د.ميلاد وهى الدراسة التى انتهت 1953.. ولأن د.ميلاد رجل اجتماعى بطبعه محب للجميع تم اختياره عمدة النادى فى لندن واستغلها فى القراءة فى السياسة والفلسفة.. ومراقبة ما يحدث بين جمال عبدالناصر واللواء محمد نجيب.. وقرر العودة لمصر فى الوقت الذى كان يرتبط بفتاة بريطانية وانفرجت أساريره للعودة إلى مصر مع تعيين الدكتور محمود طلعت عميداً للهندسة وتغير اسم الجامعة إلى عين شمس بدلاً من إبراهيم باشا.
واستلم العمل فى قسم الهندسة الإنشائية مع أستاذه العميد الذى كان يعرف قيمته العلمية وظل 30 عاماً فى هذا القسم حتى عام 1984 عندما عين فى يونيو من نفس العام فى مجلس الشعب وقتها.
سنوات الهدوء
يسمى الدكتور ميلاد الفترة من 1955 إلى 1967 سنوات الكمون أو الهدوء والبعد عن السياسة وكانت تبهره كاريزما جمال عبدالناصر ويرى أنها غير متكررة فى الحياة المصرية وفى لندن فشلوا بالدعاية السوداء فى التأثير عليه بحكم اطلاعه على الصحف البريطانية ويعتبره من أبرز قادة العالم الثالث وتحول من النقد للتجربة ومناهضاً لها إلى متعاطف خاصة مع تأميم قناة السويس الذى غير أشياء كثيرة فى حياة ميلاد.. وشجاعته فى مواجهة عدوان 1956 بتحويل الهزيمة فى العدوان الثلاثى إلى نصر وانسحاب الدول الثلاثة من القناة.
ويقول: عبدالناصر شخصية وطنية شجاعة نادرة المثال.. ويقول لم تهتز مشاعرى تجاه عبدالناصر إلا بعد حبس «الشيوعيين» وكان على صلة بكثير منهم حتى تم الإفراج عنهم فى 1964. وانغمس د.ميلاد فى العمل المستقل عبر مكتب صغير مقابل الأوبرا القديمة فى مكتب بالإيجار بـ ٥ جنيهات شهرياً وبدأ فى التعامل مع القطاع العام فى إنشاء المصانع والمطاحن والأبراج.
وامتد صيته إلى ليبيا بعمل محطة محولات ومبان لحساب شركة ليبيكو التى كان يملكها مصطفى بن حليم الرئيس الأسبق لوزراء ليبيا.
هزيمة 67.. ومشاركته فى المظاهرات
يرى د.ميلاد أن نكسة 67 هزت مشاعره وجاءت عليه كالصاعقة وخلالها عاش مظاهرات طلاب مصر 1967 مطالبة بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة.. وبعدها عمت المظاهرات فى مصر وكاد يتعرض للمحاسبة لكن رئيس الجامعة د.إسماعيل غانم دافع عنه أمام وزير التعليم العالى عبدالوهاب البرلسى.
ووصلت التقارير مكتب شعراوى جمعة المسئول عن التنظيم الطليعى وقتها ليتم اختياره وكان له دور بعد أن أصبح دور الاتحاد الاشتراكى فضفاضاً ـ كما يقول د.ميلاد نفسه ـ وكان أمينة شعراوى جمعة.. وهذا التواجد فى المدرج قد وضع د.ميلاد فى مطبخ القرار ليكون قريباً من جمعة وشاهد عيان على صراع السلطة.
الكل يتحدث عن ميلاد
مع وصول التقارير إلى هذه الدرجة اعتبره البعض السبب فى متاعب الدولة بالجامعة وطلب عن طريق صديقه سعد خليل وشعراوى جمعة للمرة الأولى وهو اللقاء الذى نقله إلى الرئيس عبدالناصر وبعد ذلك دعاه للمشاركة فى التنظيم وهى رغبة الرئيس عبدالناصر.. ومع الاقتراب من هذا المستوى كان يلتقى من حين لآخر شعراوى جمعة وأعد كتابه الأول أريد مسكناً بإطلالته على عالم اتخاذ القرار.
وجاء بيان 30 مارس ورحل عبدالناصر بعد الموافقة على مبادرة روجز وحرب الاستنزاف يقول كنت فى النمسا يوم وفاة ناصر ولاحظ ذلك زملائى فى المؤتمر واصلوا مناقشتهم للبحث المقدم منه للمؤتمر لحالة الحزن التى انتابته وأرسل خطاباً إلى شعراوى ليضم رأيه فيمن يخلف عبدالناصر.
حرج مع السادات
ووقع الخطاب فى يد من يوصله للرئيس السادات فوضعه فى الحرج وسط صراع واضح وفى لقاء يوم 12 مايو فى مكتب شعراوى حضره د.ميلاد وقطع اللقاء اتصالات كانت تبدو من واقع الإجابة عبر شعراوى دقيقة وحساسة وفعلاً حدثت الاستقالات فيما عرف بثورة التصحيح 15 مايو 1971.
اتصال خالد محيى الدين
فى ابريل 1976 اتصل به خالد محيى الدين وعرض عليه تأسيس منبر اليسار الذى تحول إلى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى وكان ممدوح سالم منبر الوسط قد تحول إلى حزب مصر.. وهذه الفكرة كانت وراء كتابه «قبول الآخر» وخلال أحداث سبتمبر واعتقل ودخل السجن الذى عمق داخله فكرة الحوار.
وبعدها خرج من السجن مع 1500 سجين بينهم الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل وزعيم الوفد فؤاد سراج الدين باشا بعدها بدأ ميلاد يرحل داخل مصر الدولة والوطن ومارس طقوسه فى مقابلة البسطاء والمواطنين وكان السجن نقطة فاصلة بين مرحلتين منهم كتابه «ذكريات سبتمبرية» وتصورات وراء القضبان عن 80 يوماً قضاها فى السجن وكان قد حدثت الفتن الطائفية فى الزاوية الحمراء وصار ميلاد رمزاً لحزب التجمع ورمزاً للحوار والتعايش.
إنتاج ثقافى
وبدأ يدخل بقوة مرحلة التأليف فكان كتاب الأعمدة السبعة للشخصية المصرية الذى أصدرته دار الهلال على حلقات.. عام 1989 وعام 1998 حاز على جائزة سيمو بوليفار وكتاب مصر عام 2000.وحدد الأعمدة التى تقوم عليها الشخصية المصرية وهى: الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية والعربية والمتوسطية، والإفريقية.
وأن الشخصية المصرية بهذا العمق تتميز بوحدة النسيج عبر العصور، وأنها استطاعت أن تستوعب كل الثقافات وأن تصهرها فى الشخصية المصرية وأحس أن الكلمة الطيبة تجرى فى نهر الثقافة وكان كتابه قبول الآخر الحاصل على جائزة أفضل كتاب فى معرض الكتاب ونشرته مكتبة الأسرة ثم كتابه الانصهار الوطنى خلاصته سلامة الوحدة الوطنية وهو الكتاب الذى كان له صدى كبير وسط المسلمين والأقباط ثم كتابه الرائع «نعم.. أقباط لكن.. مصريون» وهو الكتاب الذى عكس فيه رؤيته كمصرى قبطى حول الحياة.
مع حزب التجمع انخرط فى العمل السياسى وبالفعل ترشح عام 84 لمجلس الشعب على رأس القائمة فى منطقة شمال القاهرة.
وفى يوليو 1984 سار فى هذه الانتخابات ولديه رؤية هى ما «خوف الغريق من البلل؟» ولم تحصل قائمة حزبه على أن يصل إلى مقعد واحد.
أسامة الباز.. وجفوة مع التجمع
واتصل به أسامة الباز فى يونيو بعد سقوطه فى الانتخابات يبلغه بأن الرئيس جدد لو قبلت التعيين فى البرلمان ليس ضمن كوتة تعيين الأقباط لكن المتخصصين.. وكان أمامه امتحان صعب مع صديقه الرفيق خالد محيى الدين رئيس الحزب الذى قاطع المجلس وفى يوم 24 يونيو يوم ميلاده أدى اليمين بمفرده عضواً وبعدها تولى رئاسة لجنة الإسكان.. وبعدها استقال أمام تسلط مجموعة الحزب الوطنى من اللجنة أمام مقترحاته.. وفيها حدث بينه وبين حزب التجمع جفوة.
وأصاب د.ميلاد مرض السرطان وذهب إلى الدكتور نبيل علوبة أستاذ المسالك وأجرى الفحص فى 5 فبراير يوم زواجه أو عيد زواجه يقول ميلاد: أبلغوا زوجتى إيفلين رياض بأسلوب هادئ أننى مصاب بسرطان ويومها عاد للمنزل فارتدت له أفخم الثياب وقالت له سنأكل فى المطعم الإيطالى فى فندق شيراتون ولنا فيه ذكريات جميلة فهو أول مكان اتجهنا إليه يوم خروجى من المعتقل وفى لحظة قاسية أبلغوه بالحقيقة.
ولم يأت إلى ذهنهم أن النابغة المصرى فى وأصيب بوعكة صحية بمرض السرطان وتولى علاجه استشارى المسالك النابغة حازم ترك وخلال إجراء العملية.. وأسعده وزوجته عندما قال له ربنا بيحبك لابد من عمل عملية وتم استئصال الخلية السرطانية فى مستشفى السلام بالمهندسين والتى يملكها فتحى إسكندر وهو أستاذ جراحة بالقصر العينى وكان معه ابنه الوحيد هانى ومعه ابنته الصغيرة مارى ميلاد والتى تعمل فى نفس المستشفى أما ابنتى الكبرى مشيرة فلم تكن معنا ولمدة 7 ساعات يوم 10 فبراير 1991 أجريت الجراحة الدقيقة.. ولم ينسى كلمة د.حازم ترك أنت راجل طيب ومبروك.
وتحول المستشفى بعد أنباء الجراحة الدقيقة إلى خلية نحل من المسلمين والأقباط وكان الكاتب الكبير يوسف إدريس يمر عليه وموسى صبرى.. ويوم نجاح العملية دخل عليه د.يوسف إدريس بأكبر بوكيه ورد من «عصافير الجنة» وقال له ياعم ميلاد ازعجتنا وللمصادفة د.حازم ترك زميل إدريس فى الخمسينيات وقال له إدريس «مبروك» لقد فحصت الأشعة وكلها تقول إن ميلاد حنا محظوظ وتخلص جسمه من السرطان.. كما زاره أسامة الباز وبعدها عام 91 رحل يوسف إدريس.
الوفاة
وفى 29 نوفمبر عام 2012 شيعت جنازة المفكر القبطى الكبير فى الكنيسة البطرسية بالعباسية ورأس البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية القداس الفقيد وكان قد توفى يوم 27 فبراير 2012 وشارك فيها عدد من الأساقفة وعدد من الشخصيات العامة وعدد من الوزراء وأصدقائه وودعت مصر بوفاته رجل حمل ضميراً إنسانياً متعدد الثقافات وظفها فى خدمة الحوار والتعايش والمواطنة والانتماء وعاش طوال حياته يؤكد على أهمية الانتماء الوطنى.. وأن الهوية تعنى بناء وطن متماسك بلا شروخ.