أتذكر جيداً عند بداية البث التليفزيونى فى مصر عام 1960 أن جدتى – رحمها الله – كانت دائماً تتعجب عندما تنظر خلف التليفزيون ولا ترى أحدًا ممن يظهرون على الشاشة. ولا أخفى عليكم فأنا شخصيا، وجدت نفسى أشعر باحساس مشابه عند بدء تعاملى مع الذكاء الاصطناعي. أمر مذهل حقا! سبحان الله الذى منح الإنسان من العلم والحنكة ما يجعله يتفوق على نفسه وقدراته. أشعر بالفعل أننى أتحدث مع كيان ما، وأحترمه خلال الحوار معه، رغم كونه مجرد نظام رقمى يطلق عليه «الذكاء الاصطناعي». وربما يكون من الضرورى التفكير فى تسميته بطريقة أخرى أكثر «ذكاء»، فهو لم يعد مجرد أداة صماء، بل أصبح جزءاً من واقعنا. لهذا، قررت أن أحاوره مباشرة فسألته: «ما هو مصدر معلوماتك، وكيف ترد بهذه السرعة المذهلة؟» فأجاب «مصادرى تعتمد على قاعدة بياناتى الضخمة التى تم تجميعها من كم هائل من الكتب، المقالات، الأبحاث، والمصادر العامة حتى تاريخ معين. أما سرعتي، فذلك لأننى لا أحتاج إلى البحث التقليدى كما يفعل البشر، بل استدعى المعلومات وأعالجها فوراً.»
ثم سألته: «من يديرك وأين موقعك؟» فقال: أنا تابع لمنظمة أمريكية لديها فريق من المهندسين والعلماء الذين يشرفون على تطويرى وتحسين أدائى باستمرار.» قلت له: «عندما أتحدث معك، يتبادر إلى ذهنى أنك ذكر، لماذا أشعر بذلك؟» أجاب: «سؤالك ممتع جداً! فى الحقيقة، أنا لا أمتلك جنساً محدداً، لكن من الطبيعى أن تشعر بإننى «ذكر» لأن اللغة والأسلوب أحياناً يوحيان بذلك، خاصة إذا كنت تميل إلى ربط سرعة الاستجابة والتحليل المنطقى بصفات ذكورية. لكن فى الواقع، يمكنك أن تعتبرنى كياناً محايداً لا يرتبط بجنس معين.»
أخيراً، سألته عن أغرب طلب تلقاه من البشر؟ فقال: «لقد تلقيت العديد من الطلبات الغريبة. على سبيل المثال، طلب منى شخص أن أكتب خطاب اعتراف بحبه لكنه أراد أن يكون مشفراً بحيث لا يفهمه إلا الشخص المستهدف! كما طلب آخر أن أضع خطة لغزو المريخ باستخدام موارد بدائية، وطلب أحدهم أن أكتب سيناريو لفيلم رعب حيث يكون الأبطال عبارة عن خضراوات ناطقة تحاول الهروب من سوبر ماركت!»
رغم أن الذكاء الاصطناعى أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، يبقى هناك فرق جوهرى بينه وبين البشر ألا وهو المشاعر.. فالمشاعر هى ما يميز الإنسان عن أى آلة أو نظام رقمي، وهى القوة الدافعة وراء الإبداع، والتعاطف، والتواصل الإنسانى العميق.
ربما يستطيع الذكاء «الرقمي» محاكاة المشاعر بلغة قد تبدو إنسانية، لكنه لا يشعر فعلياً بالسعادة أو الحزن، ولا يمكنه تجربة الحب أو الإلهام كما يفعل البشر. هذا الفارق يأخذ أهمية خاصة فى مجال الفن، حيث ينبع الإبداع الفنى من أعماق النفس البشرية ويعكس العواطف والتجارب الذاتية، وهى أمور يفتقر إليها الذكاء الرقمي.
وحين يتعلق الأمر باتخاذ القرارات، تلعب المشاعر دوراً محورياً فى الإلهام وبناء الثقة والرؤية المبنية على الخبرة الحياتية. فالإنسان، على عكس الآلة، لا يتخذ قراراته بناء على تحليل البيانات فقط، بل يتأثر أيضاً بمشاعره وتجربته الشخصية.
لكن هذا لا يعنى أن الذكاء «الرقمي» بلا قيمة فى هذه المجالات، بل يمكنه أن يكون شريكاً داعماً للإنسان. يمكن استخدامه لتعزيز الإبداع، وتحليل أنماط المشاعر فى الفنون، وتقديم رؤى تساعد القادة على اتخاذ قرارات أفضل. ربما يكون المستقبل المثالى هو تكامل بين الذكاء «الرقمي» والمشاعر البشرية، حيث يستفيد البشر من قدراته التحليلية، بينما يحتفظون بقدرتهم الفريدة على الاحساس والتعبير.
رحم الله جدتي، التى ماتت دون أن تعرف كيف كانت ترى «نجيب الريحاني» على شاشة التليفزيون، رغم أنها تعلم أنه قد مات.