الأطباء يخطئون.. والقانون لا يعاقبهم».. هذا هو عنوان تحقيق صحفى نشرته جريدة الجمهورية يحمل اسمى فى عام 1976 رغم أننى كنت تحت التمرين وقتها؛ وربما كان ذلك مكافأة لى من رئيس التحرير وقتها الكاتب الصحفى محسن محمد تقديراً للقضية واعترافاً بجهدى المتواضع فى تناولها.
وهى بالفعل قضية مهمة لا تزال تثير الجدل والاهتمام؛ ذلك أن الأخطاء الطبية ظاهرة عالمية تترك آثارها المؤلمة على المرضى وذويهم، حتى أن منظمة الصحة العالمية أكدت فى تقرير سابق لها أن تلك الأخطاء تزهق أرواح 5 مرضى فى كل دقيقة حول العالم، ونحو مليونين و600 ألف شخص سنوياً.. بينما تتسبب فى وقوع 3٪ من الوفيات بمصر؛ وهو ما دفع البرلمان لإقرار قانون المسئولية الطبية أخيرًا لتنظيم العلاقة بين مقدمى الخدمة الطبية والمرضي، بعد جدل واسع بين الأطباء والمشرعين، وتحفظات من نقابة الأطباء والعديد من المهنيين فى القطاع الصحي.
فهل ينجح القانون الحالى فى علاج العيوب الموجودة فى النظام السابق، وهل نجح فى التمييز بوضوح بين الخطأ الطبى والمضاعفات المتوقعة، ومن ثم تقنين الحبس كعقوبة فى الأخطاء الفنية..والأهم هل يسهم هذا القانون فى الحد من هجرة الأطباء..وهل يمنع وقوع الأخطاء الطبية القاتلة؟
رغم أن القانون الجديد يهدف إلى حماية المرضي، فإن البعض ذهب للقول إنه فرض عقوبات جنائية قد تؤدى إلى ممارسة «الطب الدفاعي»، حيث يتجنب الأطباء التعامل مع الحالات الصعبة خوفًا من المساءلة، مما قد يؤثر سلبًا على جودة الرعاية الصحية. كما أن غياب تعريف واضح للخطأ الطبى والمضاعفات المتوقعة يزيد من الغموض فى تطبيق القانون.
ورغم ما أبدته نقابة الأطباء من تحفظ على بعض مواد القانون قبل إقراره فقد أشادت النقابة بتوضيح القانون للفارق بين الخطأ الطبى والمضاعفات الطبية المعروفة، مما يسهم فى حماية الأطباء من الاتهامات العشوائية، كما رحبت النقابة بتشكيل لجنة فنية مختصة لتقييم الشكاوى وتحديد نوع المسئولية، مما يعزز من العدالة فى التعامل مع القضايا الطبية، وأثنت النقابة على إدراج مادة تجرم الشكاوى والبلاغات الكيدية ضد مقدمى الخدمات الطبية، مما يوفر حماية إضافية للأطباء.
ورأيى أن تطبيق القانون عمليًا على أرض الواقع سيكشف عمليًا ماذا تحتاج المنظومة الطبية فى مصر حتى تترسخ فيها حماية حقوق المريض والطبيب معًا بمعايير دولية تطبقها دول متقدمة لا يشكو مرضاها سوء عاقبة الإهمال الطبى ولا يشعر أطباؤها بالخوف من تشديد عقوبات ذلك الإهمال الذى يجعل أياديهم مرتعشة فى إجراء الجراحات الخطيرة والدقيقة الأمر الذى قد يدفع بعضهم للتقاعس عن أداء الواجب خوفًا من الحبس إذا وقعت «الفاس فى الراس»..
ورغم أن ضحايا الخطأ الطبى يفوق ضحايا الحروب والأوبئة والانتحار والأمراض الفتاكة مجتمعة فى العالم كله فإنه يمكن تلافى 83٪ من تلك الأخطاء إذا ما تبنت الدول- بحسب منظمة الصحة العالمية- سياسات مأمونة داخل منشآتها الصحية..وهو ما يستلزم كثيراً من الجهد المنظم والتوعية بخطورة المسألة المتعلقة بحياة الإنسان أكرم مخلوقات الله فى الأرض..ناهيك عن ضرورة الحماية القانونية للضحايا والردع للمخطئين المهملين وتوفير التأمين والتعويض المناسب حال وقوع مثل الأخطاء.
نحن أمام ظاهرة خطيرة الأثر، فادحة الخسائر معاً، ويكفى للتدليل على ذلك ما أكدته جامعة مانشستر فى بحث لها من أن 6٪ من المرضى يتعرضون للإعاقة أو الموت بسبب أخطاء طبية تعتبر هى ثالث أسباب الموت فى أمريكا بعد أمراض القلب والسرطان بحسب موقع CNBC الأمر الذى يجعلها مشكلة صحية عامة وخطيرة تهدد سلامة المرضى وتنشر الفزع بينهم، كما أن ارتفاع معدل التقاضى بسبب الخطأ الطبى ينعكس إيجابياً على جودة الممارسة الصحية حيث يزداد الحذر والتدقيق خشية العقوبة..فمن أمن العقاب أساء الأدب كما يقولون.
وزارة الصحة قدرت وقوع آلاف الحالات من الأخطاء الطبية سنوياً، يجرى بسببها شطب الأطباء المخطئين كما تقول نقابتهم..لكن ذلك لم يكف لحصار هذه الظاهرة الخطيرة التى وقف القانون القديم عاجزاً عن منعها أو مواجهتها..وقد تبين من خلال دراسة أجراها خبير العلوم الجنائية اللواء رفعت عبد الحميد عن الخطأ والإهمال الطبى الجسيم ومسرح الجريمة انعدام التشريع والمسئولية الجنائية فى مواجهة تلك الأخطاء فى الفترة من 1937 وحتى وقتنا هذا وليس هناك تفسير أو تعريف قاطع للتفريق بين الخطأ والإهمال الطبى الجسيم الذى يتسبب فى وفاة مريض أو إصابته بعاهة مستديمة؛ ومن ثم فلم يكن هناك مناص والحال هكذا من تشريع حاسم يجرم ذلك؛ قانون رادع يقدم تعريفاً جامعاً مانعاً لكلا اللفظين يفرق بينهما بدقة ويضع لكل واحد منهما ما يناسبه من العقوبة الرادعة التى تحمى حقوق المريض والطبيب وجميع أطراف العملية الطبية.
ورأيى أن «المسئولية الطبية» تقتضى علاج فوضى الأخطاء الطبية القاتلة، وإلزام مقدمى الخدمة بالتأمين الإجبارى لجميع العاملين فى المنظومة الطبية حتى يحصل أى مريض تضرر على حقه المناسب فى التعويض المالى حال تضرره من خطأ أو إهمال طبى جسيم لحق به بأى صورة كانت، على أن تُسند مهمة الحكم بوقوع ذلك الضرر إلى لجنة طبية على أعلى مستوي، وأن تترك الولاية القانونية فى تلك المسألة للنيابة العامة والقضاء.
وللحديث بقية