كنت أقدم إحدى حلقاتى التلفزيونية ، وكان موضوع الحلقة «قراءة استشرافية فى الانتخابات الأمريكية» وكان معى أربعة من القامات الصحفية والفكرية هم الدكتور محمد كمال والدكتور جمال عبدالجواد والكاتب الصحفى أسامة سرايا والكاتب الصحفى عزت إبراهيم استطعنا من خلال مناقشة مفتوحة ان نصل إلى جملة من الأفكار، أولى هذه الأفكار وأهمها هى ضرورة تغيير الصورة الذهنية عن مصر فى مخيلة واعين المجتمع الأمريكى ، فلم يعد مقبولا ولا كافيا – بالنسبة لنا – ان نربط أهميتنا وإمكاناتنا ومكانتنا بأزمات المنطقة وخاصة القضية الفلسطينية ومشتقاتها فى لبنان واليمن والعراق وسوريا وايران ، لم يعد مقبولا ان نقدم انفسنا على اننا ملاك قناة السويس وحراس حركة وحرية الملاحة الدولية فحسب ، لم يعد كافيا ان نتحدث عن الريع السياسى الذى نحصله من جغرافيتنا وعن الريع الحضارى الذى ورثناه عن اجدادنا ، لم يعد مستساغا ان نكتفى بالدور المهم والإستراتيجى لمصر والذى قالت عنه الولايات المتحدة « مصر لا يمكن الاستغناء عنها وعن دورها «، بيد أن هذه «الينبغيات» تحتاج خطة وبرنامجا تنفيذيا وهذا لن يتأتى إلا على أيدى المفكرين وما اكثرهم ، لكن الأهم هو دور المثقفين الذين يقومون بعملية التبشير والدعوة للدور المصرى الحقيقى المبنى على قواعد التاريخ والجغرافيا وامكانات المستقبل الذى لا يراها الآخرون وهنا أتساءل بغير براءة، متى يفعلها المثقفون ؟ متى يشتبكون مع تلك القضايا دون استئذان ؟ متى نرى اشتباكا يفضى إلى إعمال العقل ؟ والسؤال الأهم هنا هل حقا خان بعض المثقفين «الفكرة»؟ فكرة المشروع الوطنى المصري؟ وهل تغافل المفكرون عن «الحالة»؟ حالة تغيير واقع المجتمع؟ ببساطة كان المجتمع يشغل ما يقرب من 6٪ من مساحة مصر الكلية وخلال 10 سنوات وصلت مساحة المعمور فى مصر إلى 14.7 ٪ بتكلفة تقارب العشرة تريليونات جنيه خلال العشرية المنقضية ، هل تفاعل المفكرون والمثقفون مع هذا الإنجاز الأضخم وحولوه الى «حكاية شعبية «ما أراه من فعل بعض المثقفين يمثل- فى تقديري- حالة «توهان» كامل، وغياب غير نبيل.. المثقفون لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس، رأيتهم بأم عينى يسيرون نيامًا غير عابئين، ولا مهتمين إلى أين هم ذاهبون.. تزاحم المثقفون فى منطقة نائية عن جغرافية الفكرة التى صاغها الرجل المصلح الذى يشغل أصعب منصب فى البلاد، وهو رأس الدولة.. الرئيس يشير بإصبعه إلى القمر، والمثقفون ينظرون فقط إلى إصبعه.. مَن مِن المثقفين صاغ مشروعًا ثقافيًّا متكاملًا عن حالات التغيير التى تشهدها مصر؟ مَن مِن المفكرين غاص فى أعماق أعماق الفكرة، وخرج منها بسطور مضيئة تنير الطريق أمام الباحثين عن البوصلة؟ مَن مِن المثقفين نظم قصيدة تتغنى بها الجماهير فى المناسبات الوطنية؟ مَن مِن المثقفين وقف وسط الجماهير ليشرح لهم ما لديه من أفكار، ويجيب عن أسئلتهم وتساؤلاتهم دون تسطيح؟ لماذا اكتفى المثقفون فى بلادى بالجنوح بعيدًا عن حلبات الاشتباك الإيجابى مع الأحداث؟ ربما تسمع من بعضهم تبريرات، «وينبغيات»، ينبغى وينبغي، وربما تجلس مع أحدهم وتخرج من تلك الجلسة بصفر كبير. الدولة المصرية الحالية غير محظوطة بمثقفيها المنسحبين من الاشتباك الفكرى والثقافي.. نحن بحاجة ماسة إلى طه حسين، والعقاد، والمازني، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف إدريس، وثروت عكاشة، وعبدالقادر القط، ولطفى السيد، ومحمد «حسين وحسنين» هيكل، والرافعي.. نحن بحاجة إلى أم كلثوم، وعبدالوهاب، وعبدالحليم، حتى نحن بحاجة إلى تحية كاريوكا، التى قال عنها الزعيم عبد الناصر إنها بـ 100 رجل.
السيسى يصنع ما لم يصنعه كل الزعماء السابقين، لكنه يعمل دون وجود مثقفين ومفكرين يحملون أفكاره، ويبشرون بها المجتمع، ويعيدون صياغتها فى صور متعددة، يتعامل معها الناس بحب وقناعة. لماذا تركنا الرئيس يقاتل بمفرده، وقلنا له: اذهب أنت وقاتل، إنا ها هنا قاعدون؟