لعلها فرصة جيدة لإعادة القراءة من أجل مزيد من الفهم الصحيح والوعى غير الزائف حوّل ملف الصوفية، فالتعميم خطيئة وإلقاء التهم جزافا كارثة ، من هنا فلا يصح نعت الصوفية بما ليس فيها ولا تحميلها ما لا تحتمل وليس من المقبول ان تكون الدروشة وتغييب العقل أحد مرادفات الصوفية، واليوم أكمل ما بدأته بالأمس عن رؤية عبدالقادر المازنى للصوفية فى بلاد العرب وكل من بلاد الهند وبلاد فارس، يقول المازنى قد لا نخطئ كثيراً إذا قلنا إن التصوف فى بلاد الشرق متفرع من فلسفاتها السائدة، وإنه عبارة عن الإحساس الدينى فى حيثما ظهر، ولكنه فى الهند غيره فى فارس مثلاً. وذلك أن البرهمية التى تقول بتأليه الكون ووحدته، والبوذية التى تذهب إلى العدمية– كلاهما ينكر حقيقة العالم الظاهر وتدعو إلى التسرب فى الغاية العليا، وكلاهما يعصف بالإحساس بقيمة الشخصية الإنسانية. وقد علل الأستاذ أندرو برنجل باتيسون شيوع التصوف فى الهند بطبيعة الإقليم وما يغرى به المناخ من التسليم والفتور، وبأن فرط الخصب فى حياتى النبات والحيوان هناك يبلد الإحساس بقيمة الحياة.
أما الصوفية الفارسية فأقل حدة، وهى ألطف وأرق، والصيغة الأدبية فيها أعم. والمطلع على تاريخ الأدب الفارسى يجده بعد القرن التاسع مشبعاً بروح البانثيزم (وحدة الكون وتأليهه).. ولكن الإدراك الصوفى لوحدة الأشياء وألوهيتها يزيد ويضاعف التذاذ بالجمال الطبيعى والإنسانى ولا يفتره أو يصرف عنه. وهذا ملحوظ فى شعر حافظ والسعدى وغيرهما ممن كثر فى شعرهم التغنى بالخمر والغزل تغنياً خرَّجه المفسرون تخريجاً اَخر وأولوه بغير المستفاد من لفظه فزعموا ما فيه من ذكر للذات الحب رمزاً لغبطة الاتصال بالذات العليا، وادعوا أن الخمارة اسم مستعار للمعبد وأن نشوة الخمر هى ذهول الحس. ولا شك فى أن لهؤلاء الشعراء قصائد بعث عليها الإحساس الدينى فى أول الأمر، وهذه تغلب عليها البانثيزم، وتحس فيها حرارة الرغبة فى خلاص الروح واتصاله بالله. ولعل هذه الحالة التى تعتريهم أحياناً وتغريهم بعدّ الطبيعة والجمال ومتع الأرض عبثاً وباطلاً– رد فعل للإغراق فى التماس اللذات وإفراط فى إرضاء الجسم، أو لعلها الجانب الاَخر للصورة.
ومن شعراء الفرس الذين ذاع صيتهم وسار ذكرهم فى الشرق والغرب عمر الخيام. وقد حاول بعض النقاد أن يزج به فى زمرة المتصوفة من شعراء الفرس وأن ينفى عنه ما يدل عليه ظاهر ألفاظه، وأن يخرِّج كلامه على نحو ما أسلفنا، وأن يدفع عنه تهمة الأبيقورية جهلاً كما سترى. ولكن الواقع، كما قال مترجمه إلى الإنجليزية فتزجرالد، إن عمر لم يكن أبغض إلى أحد منه إلى متصوفة عصره الذين كان يسخر منهم ويركبهم بالدعابة والتهكم «وأنه لما عجز أن يهتدى إلى شىء سوى القدر أو دنيا غير هذه– بالغاً ما بلغ خطؤه فى ذلك– قنع بحظه المقسوم له، واَثر أن يرفه عن نفسه من طريق الحواس على أن يرهق نفسه باستجلاء الغوامض».
على أنه كانت له موهبة تنأى به عن التصوف، ذلك أنه كان رياضيا! بارعاً. ومما يذكر له فى هذا الباب تنقيحه التقويم السنوى تنقيحاً أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزى بالثناء عليه. وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف فى علم الجبر بالعربية. والذهن الرياضى مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها، والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف. ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف، ونكمل غدا.