التاريخ لا يعيد نفسه.. والموضوعية نسبية وخلافية
سقطت المقولة الشهيرة أن المؤرخ هو «القاضى» الذى يفصل فى مجريات الأحداث التاريخية
ما زلنا حتى الآن نختلف حول كليوباترا وصلاح الدين وحتى محمد على رغم مرور مئات السنين
يشوهون الشخصية التاريخية جرياً وراء « التريند» والفرقعة الإعلامية،
أو هز ثقة الشباب فى الوطن
حين يضيق الحاضر بنا نلجأ للتاريخ ، ليس هروبا لكن بحثا عن الحل والمخرج.. وما أشد حاجتنا اليوم لاستحضار العزيمة والقوة من دروس التاريخ.. وضيف «الجمهورية الأسبوعي» على مائدة الحوار د.محمد عفيفى الامين العام السابق للمجلس الاعلى للثقافة و أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب بجامعة القاهرة، تتلمذ على يدكبار المؤرخين، أمثال: رءوف عباس، ويونان لبيب، والفرنسى أندريه ريمون، حصل على درجتى الماجستير عن الأوقاف فى العصر العثماني، والدكتوراه عن الأقباط فى العصر العثماني… كما عمل باحثًا فى المعهد الفرنسى للآثار والمعهد الفرنسى للدراسات الاجتماعية والاقتصادية..
وأسهمت كتاباته فى تغيير الصورة الذهنية لدى الناس عن المؤرخين، ليصبح أحد أعلام كتابة التاريخ الاجتماعي..حصل على العديد من الجوائز منها جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية.
تحدث د.محمد عفيفى عن معنى التاريخ وتأثيره فى المستقبل، وأنه للأسف ليس لدينا مراكز بحثية تاريخية نستطيع أن نقارنها بمثيلاتها فى الدول الغربية، مؤكداً أن الذكاء الاصطناعى يشكل الخطر الأكبر فى تزييف وتزوير التاريخ.. وإلى التفاصيل:
> بداية ما هو التاريخ.. هل هو علم الماضى فقط أم تغير المفهوم الآن؟
>> بالتأكيد التاريخ هو علم الماضي، هكذا تعلمنا قديمًا. لكن الاتجاهات الجديدة فى علم التاريخ ترى أن التاريخ هو علم الماضي، لكنه أيضًا علم الحاضر، وعلم المستقبل.
> كيف؟
>> تأثير الماضى حاضر بشكل كبير على الزمن الحالي، ومن المهم أن نفهم ذلك لندرك كيفية التعامل مع أحداث المستقبل.
> لكننا درجنا على وجود فارق زمنى بين المؤرخ والأحداث التى يتناولها، سواء كان خمسين عامًا أو حتى مائة عام، لتتوفر الحيدة وكذلك لمسألة الإفراج عن الوثائق؟
>> لم يكن الحال هكذا عند المؤرخين الأقدمين، سواء عند مؤرخى اليونان، أو المؤرخين المسلمين، وصولاً حتى إلى الجبرتى فى القرن التاسع عشر، كان المؤرخ يؤرخ لعصره.
> ولماذا حدث التغيير؟
>> الدراسات الأكاديمية «الجامعية» هى التى وضعت الشروط والمحاذير السابقة
> وما السبب؟
>> فى رأيى كانت نوعا من حماية المؤرخ لنفسه من الاصطدام مع الأنظمة المعاصرة.
> قلت: عدم توفر الحيدة والنزاهة.. تهمة تلاحق المؤرخ؟
>> الحيدة والموضوعية قضايا خلافية، فما زلنا حتى الآن نختلف حول كليوباترا وصلاح الدين وحتى محمد علي، رغم مرور مئات السنين، من هنا توصل علماء التاريخ الجديد إلى أن الموضوعية «نسبية» إلى حدٍ ما، وسقطت المقولة الشهيرة أن المؤرخ هو «القاضي» الذى يفصل فى مجريات الأحداث التاريخية.
> حدثنى عن اهميه توفير الوثائق والمصادر التاريخية التقليدية وغير التقليدية للمؤرخ؟
>> لدينا الآن كم كبير من الوثائق، وخاصةً فى العالم الغربي، يُفرج عنه سريعًا، كما تنبه المؤرخون إلى أهمية المصادر غير التقليدية فى كتابة التاريخ، مثل السينما والأدب والمأثورات الشعبية، فضلاً عن الوسائط السمعية والبصرية الجديدة، بل وحتى وسائل التواصل الاجتماعي.
> هل ترك التطور فى نطاق مفهوم التاريخ تأثيره على الاتجاهات الحديثة لدراسة التاريخ؟
>> نعم بالتأكيد، أصبح هناك فى أقسام مختلفة للبحث فى التاريخ ، الآن توجد فى المراكز البحثية فى الغرب دراسات عن تاريخ الحاضر، بل ودراسات عن تاريخ المستقبل، وأتذكر دهشتى وشغفى وأنا أطالع أحد أعداد الدورية العلمية التاريخ المستقبلى «الأمريكية» وكان ملف العدد حول سيناريوهات الشرق الأوسط بعد الغزو الأمريكى للعراق 2003!
> هل أقسام التاريخ والمراكز البحثية التاريخية فى عالمنا العربى تتابع مثل هذه التطورات؟
>> للأسف ليس لدينا مراكز بحثية تاريخية نستطيع أن نقارنها بمثيلاتها فى العالم الغربي، وأقسام التاريخ فى جامعاتنا، فى أغلبها، مراكز تعليمية تقليدية، والميزانيات المرصودة لها لا تسمح بالجانب البحثي، ولا بإرسال بعثات إلى الخارج، أو استقدام علماء أجانب للترويج لهذه الاتجاهات الحديثة، كما حدث فى مصر فى تجربة محمد على وإسماعيل، وكذلك مع نشأة جامعة القاهرة.
> قلت هل العرب يقرأون التاريخ؟
>> للأسف هناك شبه أمية تاريخية فى عالمنا العربي، وربما من هنا نحن نكرر العبارة التقليدية الشهيرة: «التاريخ يُعيد نفسه». فى الحقيقة الزعماء والأمم الذين لا يقرأون التاريخ يكررون أخطاءهم، ومن هنا نُلقى باللوم على التاريخ، ونقول إنه يعيد نفسه.
> هل البُعد التاريخى مهم لصانع القرار؟
>> بالتأكيد.. لا نستطيع فهم ظاهرة ما أو حدث ما دون التعرف على البُعد التاريخى لهذا الأمر. ودائمًا أضرب مثلاً بالطبيب عندما يحضر إليه أحد المرضي، فالأسئلة الأولى له تكون حول: هل هناك زواج أقارب؟ العمليات الجراحية السابقة؟ الأدوية التى يأخذها؟ وهذا ما يسميه History المريض، لكى يقرر نوع التحاليل والأشعة «الحالة الحاضرة» لكى يرسم معالم المستقبل «روشتة العلاج». من هنا كان توينبي، أشهر مؤرخ فى النصف الأول من القرن العشرين، هو مستشار وزارة الخارجية البريطانية فى مجدها الذهبي، وكان برنارد لويس، أشهر مؤرخى النصف الثانى من القرن العشرين، هو مستشار الخارجية الأمريكية.
> من يكتب التاريخ: المنتصر.. أم المؤرخ؟
>> قال: نعم يكتب التاريخ المنتصر او القوى ، وحتى وقت قريب كان المنتصر وحده يكتب التاريخ بمفرده . و طبعا كان المنتصر يكلف المؤرخ بكتابة التاريخ الذى يريده . لكن بتغير الاجواء ووسائل الاتصال تغيرت الصورة بشكل كبير جدا.
> كيف؟
>> أصبحت هناك مصادر لروايات أخرى يمكنها أن توضح وتكشف زيف التاريخ الذى كتبه المنتصر القوى !!
> بصراحة هل لدينا مؤرخون حقيقيون ام دارسون للتاريخ وعاملون به؟
>> عندنا النوعان ..عندنا مؤرخون وهم نوعية قليلة تستطيع اعادة قراءة التاريخ وكتابته.. وفى نفس الوقت عندنا الأغلبية من دارسى التاريخ والعاملين به ، وللأسف يتصورون ان التاريخ قص ولزق وجمع معلومات فقط.
> هل المقصود من تشويه الشخصيات التاريخية هز ثقة الشباب فى أمتهم أم لا يخلو الأمر من مصداقية؟!
> هى مسألة شائكة جدا. لدينا ما يطلق عليه « النقد التاريخي» ويعنى امكانيه نقد الشخصية التاريخية بشرط التركيز على الايجابيات واسقاط السلبيات. لكن تشويه الشخصية التاريخية.. كهدف -المقصود من البعض يكون بحثا أو جريا وراء ثقافة « التريند» على الانترنت ، أو بحثا عن فرقعة اعلامية، أو هز ثقة الشباب فى أمتهم.
> قلت هل يعنى ذلك قداسة الشخصيات التاريخية؟
>> لا طبعا.. هناك امكانية لنقد الشخصيات التاريخية لكن هناك فارقاً بين نقد الشخصية التاريخية وتشويهها.
> من يمتلك القوة يسيطر على الحاضر ويخطط للمستقبل..هل تنتقل هذه الآثار الى الماضى بتاريخه وأحداثه؟!
>> تدرس مراكز البحوث فى العالم الغربى الماضى جيدا كى تفهم الحاضر وحتى تستطيع التخيط للمستقبل بل وتسيطر عليه.
> وهل يدخل التاريخ لدائرة النزاع العربي– الإسرائيلى مع محاولة الصهيونية البحث عن جذور فى المنطقة.
>> طبعا.. والذى لا يعرفه الكثيرون وجود الكثير من أهم مراكز البحوث الخاصة بالتاريخ والسياسة فى اسرائيل ، يعنى اذا عملنا احصاء على عدد مراكز البحوث التاريخية والسياسية فى العالم سنجد أن جزءا كبيرا منها موجود للاسف فى اسرائيل.
> قلت: ولماذا وهى تمتلك القوة؟
>> من أجل فهم المنطقة والبحث عن جذور لهم وتأكيدا لأهمية دور التاريخ.
> هل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعى إحدى أدوات تزييف التاريخ؟
>> طبعا الخطر كبير من الذكاء الاصطناعي. حين يصبح إحدى ادوات تزييف التاريخ باستخدام الذكاء الاصطناعي.. الآن ممكن تشوف أحد الزعماء أو القادة يقول كلاما لم يقله فى الواقع . وسيسبب مشكلة فى المستقبل للمؤرخ الذى يتعامل مع الوثائق السمعية والبصرية ، وسيكون الشرط الاساسى هنا ضرورة اثبات صحة الوثيقة او اثبات صحة الفيديو .