رياضة التثوير.. عولمة كتالوج الثورة!
تخرج من باب المعارضة السياسية المحمودة إلى بوابة الخيانة المنبوذة
الخطة تقوم على تسفيه كل إنجاز.. الاغتيال المعنوى لكل الرموز
الربط غير العلمى بين شواهد الفقر والغنى.. الدعوة إلى تحدى سلطة القانون
استعداء بعض فئات المجتمع على بعضها، حتى يتحقق مفهوم «الفوضى الخلاقة»
تحدثنا فى الحلقة الأولى من هذه السلسلة عن مفهوم «رياضة التثوير» و»عولمة النزعات البشرية» وخلخلة الثوابت الإنسانية وصولاً إلى ابتداع ما أسميته «كتالوج الثورة أو التثوير». وفى هذه الحلقة نتحدث عن أهم سمات رياضة التثوير ومراحلها وأساليبها
المرحلة الأولي: التخطيط. بعض البلدان التى لم تصل بعد لمرحلة الاستقرار الدائم والنضج الاجتماعى الكافى تجد القوى السياسية فيها غارقة فى «المكايدة»، لا قائمة بمهمة «المعارضة»… هنا تقتضى الأمانة أن نتحدث من باب العلوم السياسية التى جعلت «المعارضة» أهم مصدر لاكتساب شرعية الحكم عند الإدارة الحاكمة؛ لكن الإنصاف يقتضى أيضًا تقرير حقيقة مفادها أن ما يسمى «المعارضة» إذا «كايدت» و»استُتبِعَت» و«استغْرَضَت» وطاوعت الخارج دون الداخل فهى خارجة بذلك من باب المعارضة السياسية المحمودة إلى بوابة الخيانة المنبوذة. من هنا تبدأ مرحلة التخطيط التى تنطوى على أساليب، منها:(2)التخطيط للإطاحة بالحُكم القائم، و(2) الانفتاح المشبوه على كل مساعدة فى سبيل ذلك؛ ولو من الأعداء التاريخيين للأمة، و(3) الاندفاع نحو «العائدين من التثوير»(انظر الأكتوبة السابقة)و»مراكز التدريب على التثوير»، و(4) اللجوء إلى «التسخيط»(انظر المرحلة الثانية)، و(5) الإلحاح الإعلامى بمفاهيم «الخلاص» و»الحرية» و»العدالة الاجتماعية» وما إلى ذلك.
المرحلة الثانية: التسخيط. يتخلل هذه المرحلة إحداث حالة عامة من السخط عند المراد تثويرهم، ويتخلل ذلك أساليب، منها:(1) تسفيه كل إنجاز محقق فى عهد الإدارة المراد تثوير الناس عليها، و(2) الاغتيال المعنوى لكل الأشخاص والرموز والمفكرين المرتبطين بالإدارة القائمة بشكل أو بآخر، و(3) الإلحاح بفكرة «اقتراب الموعد»، وتدشين مواعيد كثيرة بوصفها «بالونات اختبار» للوقوف على مدى شيوع دعوتهم فى صفوف المراد تثويرهم؛ و(4) الربط غير العلمى بين شواهد الفقر والغنى مثال: لاعب الكرة فلان يتقاضى كذا فى الشهر، والطبيب يتقاضى كذا فى الشهر… مع التجاهل التام لحقيقة مكافأة الأول من القطاع الخاص، والثانى من القطاع العام؛ مع انفتاح الباب على مصراعيه أمام الطبيب للتكسب من القطاع الخاص، وعدم وجود فرصة مماثلة للاعب الكرة من القطاع العام!؛ و(5) الإلحاح بأفكار بالية على نفوس البسطاء ماديًا، كالأفكار الشيوعية المغلفة فى قوالب منمقة من قبيل «إعادة توزيع الدخل» مثلاً، و(6) الدعوة الفجة إلى تحدى سلطة القانون برفض دفع الضرائب أو فواتير الخدمات أو غير ذلك.
المرحلة الثالثة: التقنيط. يراد من هذه المرحلة الوصول بحالة «التسخيط» إلى مرحلة «التقنيط»؛ أى إشعار المراد تثويرهم بالقنوط(اليأس)التام من أى إصلاح أو مستقبل إلا من باب الثورة. ويتخلل هذه المرحلة أساليب، منها: (1) بث روح اليأس بتسفيه الإنجازات، وبلورة عبارات وجيزة اللفظ غزيرة المعنى لهذه الغاية، مثل «مفيش فايدة»، و»يا رب النيزك بقي!»، وغيرها؛(2) سوق الأمثلة المختلقة / المجتزأة على «القفز من المركب» التى أوشكت على الغرق؛ و(3) إطلاق شائعات عن «قفز» مصطنع ممن يراد بروزة فرارهم من المركب الموشكة على الغرق، علَّهم يستجيبون! و(4) انتهاك حرمة الموت بانتزاع حالات «الانتحار» من سياقها بتصويرها فى عيون الناس على أنها بدافع «القنوط» والكفران بالوطن والاحتجاج على أوضاعه؛ و(5) التباسط فى عرض بعض المشكلات الحياتية اليومية مع تهويل أثرها بغية الاقتراب من عامة الناس، كالحديث عن وجبة الإفطار التى تتكلف كذا وكذا ومن أين للفقير أن يتدبر ذلك!
المرحلة الرابعة: مزاعم التفريط. يتخلل هذه المرحلة الكذب البواح بشأن «تفريط» الإدارة الحاكمة فى أرض الوطن ومقدرات الوطن وثروات الوطن وآثار الوطن وأبناء الوطن، واستدعاء القاسم المشترك بين كل المراحل (أي: الكذب البواح، وطمس الحقائق) بقوة فى هذا الباب.
المرحلة الخامسة: التنميط. يعول القائمون على رياضة التثوير فى هذه المرحلة على تنميط الأمور، ولذلك أساليب، منها:(1) الزعم بأحادية المنشأ لكل أسباب الاحتجاج والغضب الشعبي(أي: بسبب الإدارة الحاكمة)، و(2) الزعم بأحادية الحل(أي: الثورة «اللى تشيل ما تخلي»)، و(3)تنميط المجتمعات بزعم أن سبب الثورة فى جورجيا أو فى ليبيا هو نفسه فى مصر وفى أوكرانيا وفى أى بلد(انظر الحلقة الأولي)، و(4) التعويل على غياب مهارات التفكير الناقد عند المراد تثويرهم، فهم ليسوا يحسنون النقد والمقاربة والمقارنة بين الحالات للوقوف على حقيقة البواعث والأسباب والدوافع والنتائج والمآلات؛ و(5) استفزاز المراد تثويرهم بعبارات من قبيل «احنا مش أقل من الشعب الفلاني»، و»المرة دى اتعلمنا من أخطائنا الماضية»، وهكذا، و(6) استدعاء بعض أوجه التشابه غير ذات الدلالة الحقيقية، مثل نغمة ترديد شعارات الاحتجاج(مثل: الشعب… يريد … إسقاط النظام)، وكيف أنها استُخدِمت فى عدة بلدان؛ مع السكوت عن الاختلاف بين مطالبات «إسقاط» و»إصلاح» و»محاسبة» و»تغيير» النظام؛ و(7) إيجاد الرمزيات الجامعة، ومن قبيل ذلك صفحات وتنظيمات «كلنا فلان»، وائتلافات «شباب الثورة»، واتحادات «أهداف الثورة»، وما إلى ذلك؛ من أجل تجميع ذوى الأهداف المشتركة ولو كانوا مختلفين فى المشارب الثقافية والرؤية للمستقبل.
المرحلة السادسة: التمطيط. هذه المرحلة مصاحبة لكل المراحل السابقة والتالية، ويراد منها التمدد فى صفوف كل الكيانات والمؤسسات المؤثِرة فى الوطن المراد تثوير أهله (مثل مؤسسات الدولة –إن أمكن– والنقابات، والاتحادات الطلابية، وغيرها)وفى الأوساط الكثيرة الأعداد وغير المؤسسية(مثل روابط الألتراس).
المرحلة السابعة: التوريط. إذا استجاب المراد تثويرهم لكل المراحل السابقة، جاءت مرحلة توريطهم فى تحركات وفق مفهوم «التطاعُم»(الدعم المتبادل) الذى سلفت الإشارة إليه فى الحلقة الأولي، فتبدأ المسألة بمقاطع مصورة فردية، ثم جماعية، مع الترقى فى شدة الموضوعات وأسباب الاعتراض التى تتناولها تلك المقاطع، وهكذا. وهذه من أكثر المراحل خطورة لأن من صميم أساليبها استفزاز القائمين على إدارة كل «هدف»، لاسيما مؤسسات إنفاذ القانون، وذلك لتصيّد أى خروج على المألوف أو رد على الاستفزاز لتضخيمه والبناء عليه.. ومن الأساليب الأخرى المصاحبة لهذه المرحلة اصطناع مقاطع وأخبار وصور لا أصل لها مطلقًا، بل هى مختلقة بتقنيات حديثة لتحقيق التثوير المطلوب.
المرحلة الثامنة: التغميط. بعد نجاح التوريط ودفع المراد تثويرهم نحو تحقيق مراد غيرهم، تبدأ مرحلة «غمط الحقوق»، أى كسرها وهضمها فقد آن الأوان «للحكم بقوانين استثنائية» للخلاص من مهددات الثورة. ويرتبط ذلك بأساليب، منها: (1)استدعاء نماذج لإقرار قوانين / قرارات / محاكم خاصة تسويغًا للانتقام، و(2) مواصلة حالة الاغتيال المعنوى لكل من لا يوافق على «الثورة» و»مسارها الثورى الاستثنائي»، و(3) التهديد بوحدة المصير بالنسبة للمخالفين، و(4) التخويف الدائم من «الفلول» وقدرتهم على تجميع صفوفهم من جديد، و(5)إيجاد رابط بين «الفلول» وما يسمى بمؤسسات الدولة العميقة، وهى فى الحقيقة مؤسسات الدولة التى تصون استمرارها وتحمى شعبها فى أى حال وفى كل زمن.
المرحلة التاسعة: التنويط. يتخلل هذه المرحلة توزيع «أنواط» الوطنية والولاء والشرف وغيرها من أساليب التقريب والاستبعاد، ففلان زمر للشرف، والجماعة الفلانية رمز للتضحية، وإرداف ذلك بالاستشهاد بعبارات وأقوال لمن يمكن الأخذ عنهم فى عيون المراد تثويرهم: مثل مشاهير الرياضيين، والفنانين، والمفكرين، والكتاب، والقيادات العالمية، والقيادات الروحية، وما إلى ذلك.
المرحلة العاشرة: التخليط. يراد فى هذه المرحلة لم شمل الفرقاء الباحثين عن مكان ودور فى المستقبل على الرغم من اختلاف رؤاهم وانتماءاتهم الفكرية بزعم سمو «المشترَك الثوري» و»وحدة الهدف» و»المشاركة لا المُغالبَة»، وما إلى ذلك؛ وهذه المرحلة مستمرة فى أثناء «العمل الثوري» وبعد نجاحه أو سقوطه؛ حتى رأينا العجب العجاب –مثلاً– فى «شراء» ولاء ناصريين ولبراليين ويساريين لمصلحة الجماعة الإرهابية، فضلاً عن تحقيق التخطيط العابر للحدود والقارات للزعم بوجود توافقات وتناصُر بين الزاعقين بالثورة وأذرعهم وداعميهم بالخارج.
المرحلة الحادية عشرة: التسليط. هذه المرحلة مستمرة على الدوام منذ مرحلة التخطيط وبلا نهاية؛ ويتخللها تسليط بعض فئات المجتمع على بعضها، واستعداء بعض فئات المجتمع، حتى يتحقق مفهوم «الفوضى الخلاقة»، مع استدعاء رموز فنية / فكرية / إلخ لتسويغ ذلك التسليط وتبرير الإخفاق فى إدارة الأسباب الحقيقية لسوء الأوضاع المجتمعية المختزلة فى «تشويه الإدارة المراد تثوير الناس عليها»… ومن ذلك صب الجماعة الإرهابية جامّ غضبها على مسيحيى مصر مثلاً بعد ثورة الثلاثين من يونيو، ومحاصرة المحكمة الدستورية العليا ورئيسهم ممسك لتنظيمه بزمام الحُكم فى الدولة، وهكذا.
المرحلة الثانية عشرة: التشطيط. يقصد بهذه المرحلة فكرة الشطط فى التفكير لإيجاد فوضى عارمة(أناركية)، ومن الأمثلة فى ذلك تنظيم «الاشتراكين الثوريين» الذى لطالما عزز أفكار «مفيش فايدة» وأن الحل الوحيد هو «نهدها كلها ونبنى على نضيف!» والشطط يقابله شطط، فيضيع المجتمع بين أقليات عالية الصوت وجيدة التنظيم.
المرحلة الثالثة عشرة: التوسيط. بعد أن يئن الجميع من الشطط، تبرز(ولا أقول تبدأ)مرحلة التوسيط، أى السماح بإبراز توسط أياد من الخارج لاستتباع القوى الداخلية لقوى خارجية، لتزيد القضية الوطنية تيهًا… وذلك تحت لافتة التوسط بين الفرقاء ومحاولة توحيد الكلمة وما إلى ذلك… وهم فى الحقيقة يحركون وكلاءهم فى الداخل لتحقيق مصالح «الوسطاء».
المرحلة الرابعة عشرة: التفريط.. النتيجة الحتمية لكل ذلك هى أن كل مستَتْبَع يرتهن ما يملك من قرار وموارد لسيده الخارجي، فيصير وكيلاً لغيره فى الوطن، مع وعود بالدعم المستمر والحماية اللازمة(التى تتجلى بعض أشكالها فى الدعم المالى المباشر، ومنح الجنسية الخارجية، والدعم بالسلاح والعتاد، والدعم المعلوماتى الاستخباري، وكشف نقاط الضعف عند الوكلاء الآخرين المستتبعين لأطراف لا يرضاها الموكّل الداعم، وهكذا… فيصير الوطن ساحة لحروب بالوكالة بين قوى تتنازع مصالحها فيه (انظر نموذج السودان الحالي، بكل أسى وأسف).
المرحلة الخامسة عشرة. التحنيط. أى أن تظل الأمة هائمة على وجهها ويتحنط مستقبلها بسبب شطط حاضرها وانخداع أهلها للمكلفين برياضة التثوير.
القاسم بالمشترك بين كل ما سبق هو إعلاء المصلحة الجزئية على المصلحة الجماعية، والكذب المستمر، والتعويل على قلة الوعى عند المراد تثويرهم. لذلك، يلزم اتباع نهج (نهج، لا مجرد سياسة ولا إجراءات) مبنى على الانفتاح لأقصى مدى ممكن مع الناس، ومصارحتهم بالحقائق المقترنة بالأدلة، وزيادة الوعى لديهم، وتدشين منافذ إعلامية ومنصات إلكترونية مجانية تتيح للناس كشف زيف الصور والمقاطع المصورة وغيرها مما يُستَغَل ضدهم. ولا يقل أهمية عن كل ذلك غرس مقومات التفكير الناقد فى عقول التلاميذ والطلاب، ولو بتخصيص مادة دراسية فى كل عام دراسى تعينهم على اكتساب تلك المهارات، إلى جانب درء مخاطر «عولمة المواطنة» التى باتت تزحف بقوة على عقول الناشئة ونفوسهم لتمسخ فيهم حب الوطن والانتماء إليه.