عندما تنتظر اللاشئ فقطعاً لن يأتي، وجميعنا يعيش حالة انتظار دائم، وحقيقة الأمر لا ندرى ماذا ننتظر، فمن السهل التظاهر بأنك تنتظر نتيجة الثانوية العامة التى تحدد مصيرك، وبعدها تتظاهر بأنك تنتظر التخرج فى الجامعة ثم البحث عن فرصة عمل ثم الزواج والإنجاب فإلحاق الأولاد بالمدرسة فأخرجهم فانتظار التقاعد فانتظار الموت! رحلة وتفاصيل تكاد تكون متطابقة، الانتظار هو سيد الموقف، لكن هل حقاً هذه الحلقات من مسلسل الانتظار هى الحقيقة أم أنها كليشيهات جاهزة تتوارثها الأجيال؟ بيد أن ما ننتظره لا نعرفه! جميعنا ينتظر القادم لكنه لا يعرف تفاصيله ولا كينونته، فنحن فى حالة انتظار مرعب لما هو آت دون أن نعرف ماهيته، هل ننتظر اليقين والإيمان وهدوء النفس وراحة البال؟ أم ننتظر إجابات عن أسئلة حائرة ودائرة فى رؤوسنا حول أسرار الزمن والخلق والموت والخلود؟ الحقيقة الوحيدة أننا ننتظر دون أن نقف على حقيقة ما ننتظره، إننا نحتاج جميعا إلى مرايا عاكسة لما يدور فى نفوسنا بكل تجرد، فالصور الداخلية تبدو متداخلة ومظلمة ولا تدخلها شموس الحقيقة، فى جنوب النرويج توجد قرية مظلمة مثل نفوس الكثيرين لا تصل إليها الشمس طوال الستة أشهر من سبتمبر وحتى مارس من كل عام، هذه القرية والتى تسمى رجوكان محاطة بالجبال والمرتفعات التى تحجب عنها أشعة الشمس تماماً ويحيطها الظلام ويكسوها الضباب بشكل يجعل الحياة شديدة القسوة والصعوبة، لكن بعض النابهين والمفكرين قرروا البحث عن آلية تمكن سكان القرية من الاستمتاع بأشعة الشمس ضوءها وحرارتها، توصل هؤلاء إلى حيلة استخدام المرايا العاكسة لأشعة الشمس من فوق تلك الجبال والتلال والتى يتم إدارتها بأجهزة الكمبيوتر لتتبع حركة الشمس وتوجيه تلك الانعكاسات على مركز القرية، هذه القرية تشبه نفوسنا والعالم من حولنا وما يدور فيه الآن من تحولات وتغيرات كبرى غير مسبوقة من حيث الطريقة والأثر، فما يدور فى العالم من حروب وصراعات واستقطابات وإعادة ترتيب مكونات المعادلات الإقليمية والدولية على كافة الأصعدة، وكذلك ظهور العديد من الفاعلين من دون الدول فى كل الأقاليم مع تصاعد موجات الارهاب الدولى مجدداً بعد مرحلة خفوت أو كمون، مع ارتباك المؤسسات والمنظمات الدولية وعجزها عن اتخاذ أى قرارات فاعلة فى أى ملفات مشتعلة، مع صعود تيارات شعبوية وقومية ويسارية مختلفة التوجهات حتى داخل المجتمعات الليبرالية المتشددة، كل هذا يجرى أمام أعيننا لكننا لا نستطيع ربط تلك الأحداث أو التنبؤ واستشراف المستقبل قريبه وبعيده ومازلنا ننتظر، نحن كسكّان تلك القرية النرويجية المظلمة لا ندرى ما يدور خلف الجبال والتلال ولا ما يجرى فى الكهوف والسراديب، ومع الظلام الشديد المصحوب بالعواصف والأعاصير والضباب نسمع ما يجرى من صخب لكننا لا نرى تفاصيل وقائعه ومن ثم لا نستطيع التحرك، نحن وسكان القرية النرويجية معا فى غرفة مظلمة، تخيل لو أن قرية تعرضت لانقطاع دائم للكهرباء وسادها الظلام لكن هناك أعمال حفر ورصف وهدم وإزالة وإعادة بناء وعمال وشركات مقاولات وسماسرة ومرتزقة ووسطاء جميعهم يقيمون فى نفس القرية المظلمة، فهل ينفع أهل القرية وسكانها حينئذ معرفتهم وخبرتهم بدروب ومسالك وشوارع وطرقات قريتهم؟ بالتأكيد هناك حفر ومطبات وتحويلات تحول دون استخدام المسارات المعروفة، هذه القرية تشبه تماماً الواقع العالمى الذى نعيشه، فالقراءات الكلاسيكية ستكون خاطئة والاعتماد على التاريخ ربما يقودنا إلى مناطق خطرة، ووسط الظلام والضباب وغياب الأمن ووجود أغراب لا يمكن التحرك بسهولة، هنا سنجد أنماطا متباينة من السلوكيات لسكان القرية.
الأول: هؤلاء الذين يؤثرون السلامة ويقررون عدم الخروج من بيوتهم حفاظاً على حياتهم.
الثاني: الخروج من بيوتهم والوقوف على نواصى شوارعهم لمحاولة معرفة ما يجرى فى محيطهم الضيق.
الثالث: الخروج من البيوت ومن الشوارع القريبة والتجول فى كل الشوارع وكل المسارات للوقوف على حجم التغيير والتحويل مهما كانت العقبات والصعوبات والنتائج.
الرابع: عدم الاكتفاء بمعرفة ما يجرى فى شوارع وحوارى وأزقة القرية وإنما ضرورة المشاركة الفاعلة فيما يجرى من عمليات تغيير، وهذه المشاركة تتفاوت من الاكتفاء بالعمل مع الأطراف القريبة والشوارع المحيطة وإما التوسع فى المشاركة وصولاً إلى عموم القرية.
كل ذلك يجعلنا فى حاجة ماسة إلى آلة مرايا عاكسة وفى تقديرى أن هذه المرايا هم المفكرون والمثقفون ونحتاج إلى معرفة ما يدور فى القرية وفى أنفسنا واتخاذ قرار بمستوى وعمق مشاركتنا فيما يجري، فما يجرى غير مسبوق.