بين الإفراط فى الاهتمام بأناقة مظاهرنا وأشكالنا وصورنا وما يقوله الناس عنا وبين التفريط فى التركيز على مضمون ما نحمله من أفكار ورؤى وثقافات حقيقية والحالة المجردة التى نرى أنفسنا عليها، بين هذا التفريط وذاك الإفراط تكمن الإشكالية الكبرى والمعركة الدائمة بين الشكل والمضمون بين القشرة والجوهر بين الصورة والأصل، وهنا أطرح حزمة من التساؤلات التى لا تحتاج إجابات بل تحتاج التأمل فقط، كم ننفق من أموال على الملابس والأحذية الأنيقة والماركات العريقة حتى نظهر بمظهر وصورة وشكل لائق؟ وكم ننفق من أوقات عند الحلاق ليهذب لنا شعورنا أو ما تبقى منها؟ وكم نستغرق من وقت فى تمشيط شعرنا وحلاقة ذوقننا وانتقاء ملابسنا وتنسيق الالوان؟ وكم من الوقت ننفقه فى تلميع أحذيتنا قبل الخروج من بيوتنا؟ وكم مرة نسأل من يساعدوننا على لون رابطة العنق ومدى ملائمتها للون البدلة أو القميص؟ كم ننفق من المال على العطور والزهور والبخور؟ وكم ننفق من أوقات فى الحديث عن ملبسنا ومطعمنا وحكاياتنا الفارغة الخالية من المضامين؟ كم ننفق من أوقاتنا فى أحاديث عن الآخرين غير الموجودين حيث النميمة حاضرة وربما الغيبة كذلك؟ كم من الوقت ننفقه فى أحاديثنا عن انفسنا وبذل أقصى الجهود لنثبت للآخرين أننا جديرون لكى نكون فى مكان افضل ووضع اعلي؟ كل هذه الاسئلة تحتاج التأمل فقط بينك وبين نفسك فجميعنا يفعل هذا بنسب متفاوتة، لكننا نفعل.
>>>
على الجانب الآخر اتساءل، كم مرة اتصلت بصديق تعترف أنك أخطأت فى أمر ما وتأخذ رأيه فى كيفية إصلاح هذا الخطاً؟ وكم مرة جلست فى جلسة وفتحت باب المناقشة المجردة الموضوعية فى أمر عام بعيدا عن تشابكات مصالحك؟ كم مرة جلست امام المرآه لتنظر إلى ملامحك بقلبك وروحك وتتساءل بينك وبين نفسك هل أنا ما زلت أنا؟ هل ملامحى متصالحة مع روحي؟ كم مرة ألقيت بالمشط الذى تمشط به شعرك وقررت أن تبدأ بتمشيط عقلك وفكرك أولا؟ كم مرة اتصلت بآخرين تسألهم عن أحوالهم وتعرض عليهم مساعدتك دون ان يكون بينك وبينهم مصالح او قرابات او تقاطعات؟ كم مرة استيقظت من نومك لتقول لنفسك أننى أسأت التقدير فى امر ما وأننى كنت غبى فى لحظة ما وأننى ظلمت فلاناً أو حكمت على أحدهم دون أن أدرى الحقائق فناله منى أذي؟ كم مرة جلست لتبحث عن نقائصك وعيوبك وأخطائك وتكتبها أمامك وتضع خطة لتلافيها؟ كم مرة اعتذرت للآخرين الذين أهنتهم أو ظلمتهم أو أسأت الظن بهم؟
>>>
بيد أن الإجابة المجردة لكل منا ستكون هى الإجابة النموذجية، ففى الجزء المرتبط بالشكل والصورة سنجد انفسنا جميعا إلا القليلين تجاوزنا فى حق انفسنا وكان انحيازنا الفاضح للشكل على حساب المضمون، اما الجزء الثانى والمرتبط بمراجعة النفس ستفاجأ أننا بعيدون عن حقيقتنا بمسافات متباينة، الصورة قد تكون براقة ومبهرة وجاذبة لكن الجوهر قد يكون فقيراً منطفئاً منفراً، فهل يمكن أن تتطابق صورنا مع جوهرنا دون زيادة او نقصان؟ هل يمكن ان نكون حقيقيين دون نسب مبالغ فيها التصنع؟ كل منا يريد أن يظهر بأفضل صورة أمام الآخرين ربما لأنه يحترمهم او يخشاهم او ينافقهم وينتقى افضل ما لديه من عطور وكلمات كى يكون فى موضع انتباههم، لكن العجيب أنه لا يفعل ذلك إلا حينما يجلس مع نفسه معاتبا او مراجعا او محاسبا، يجلس مع نفسه على مضض ويحاول الهرب منها كلما أمكن وتمكن، لكل ذلك أبحث وأدقق فيما يجرى حولى من سلوكيات إنسانية واضعها على ميزان التجرد واحاول قياس معدلات نسب ومعدلات الانحراف عن مسطرة تطابق الصورة مع الأصل، فنقطة التوازن المنشودة – وأعلم أنها محجوبة – كما البلاد المحجوبة لجبران خليل جبران – وغير قابلة للتحقق على الطريقة الأفلاطونية، لكن محاولة تحديد نقطة التوازن بين الشكل والمضمون حتى وان كنا بعيدين عنها فهى امام أعيننا لا تغيب ونحاول ان نقترب منها وصولا إلى حالة التطابق التام المنشودة بين الصورة الظاهرة للجميع والأصل المخبوء فى البئر المسحور وهو بئر نفسك أنت، فحاول عزيزى القارئ بتجرد أن تسأل نفسك وتتساءل بينك وبين نفسك عن حقيقتك أنت، هل أنت أنت؟ أنت الشخص الذى تحاول رسمه أمام الآخرين وربما امام نفسك احيانا أن أنت الشخص الآخر الحقيقى الذى كنت تعرفه دون رتوش؟ يا عزيزى من أنت ؟