شهد الموقف العام فى الشرق الأوسط منذ عقود تحولات كبيرة وجذرية على الأرض، بسبب التدخل المباشر فى الشئون الداخلية لكثير من الدول، برضاها أو رغما عنها، سواء على شكل قواعد عسكرية أو جهات تابعة تنفذ أجنداتها بشكل كامل، ووصل الأمر إلى استغلال هؤلاء المتدخلين لكثير من الدول العربية، وحولتها إلى ساحات حروب.
على سبيل المثال، التوتر المصطنع بين إيران وأمريكا، وكانت التصريحات من كبار مسئولى البلدين تشتعل حتى يصل لهيبها عنان السماء، ثم فجأة نراها قد خمدت وكأن شيئا لم يكن، وكنا حينها نتوهم أن الحرب بينهما ستنطلق على الفور، بينما هى شكل من ألعاب التمويه، كشفت عنها كل المواقف.
مثل تلك العلاقات استطاعت أن تحول منطقتنا إلى ساحة حرب استباحت الكثير من الدول وانتهكت أمنها القومي، فلماذا يتبادل الأمريكان والإسرائيليون من جانب وميليشيات إيران وتوابعها من جانب آخر الضربات على الأراضى السورية واليمنية واللبنانية والعراقية، يجربون أسلحتهم، ويخربون البلاد العربية وهى التى تخسر كل شيء، من البشر والبنى التحتية وتوقف التنمية وحتى الحياة.
ما يحدث فى غزة على مدى عدة شهور، فصل جديد لا يختلف كثيرا، لكنه أكثر دموية ووحشية، فصل من التخريب الأمريكى بأيدى الإسرائيليين، بدليل أن كل القادة والمسئولين الأمريكيين الكبار زاروا تل أبيب وتواجدوا فيها وبعضهم تردد عليها عدة مرات، والأسلحة الموجهة إلى صدور الفلسطينين منحة أمريكية لجيش الاحتلال.
ويزيد الطين بلة ويؤكد ذلك إصرار الأمريكان على استمرار حرب الإبادة والدمار الشامل فى القطاع، بالدعم الكامل والتأييد المطلق لآلة الحرب الصهيونية، ثم إجهاض كل محاولات وقف إطلاق النار، وتقويض جهود الهدنة، وتستخدم أمريكا الفيتو الملعون فى مجلس الأمن الذى تجعله شوكة فى حلق العرب على مدى خمسة وسبعين عاما، ولا يمكن ولم نعد نصدق بعد ذلك كله أن أمريكا وسيط للسلام أو تعتزم تحقيق ما تردده من تصريحات لحل القضية الفلسطينية.
فبعد أن صوتت الغالبية لوقف إطلاق النار، أجهض «فيتو أمريكا» الأمل فى إنقاذ الأبرياء، فى ثالث مرة تستخدم فيها حق النقض ضد قرار لوقف النار، فزاد الموقف الأمريكى المتجدد من خيبة الأمل الكبيرة فى وقف المذبحة التى لا تلوح لها فى الأفق أى بوادر للحل وإنهاء الحرب، بل يظهر بوضوح أن هذه المواقف المتكررة هى «تصريح» أمريكى لقتل الفلسطينيين.
وأمام هذه «المهزلة الأممية» أعربت الكثير من الدول عن أسفها، وطالبت بضرورة إصلاح مجلس الأمن، للاضطلاع بمسئولياته فى حفظ الأمن والسلم الدوليين دون ازدواجية فى المعايير، خاصة عرقلة أمريكا لقرارات وقف الخطط العسكرية الإسرائيلية فى غزة، فى ظل وضع إنسانى كارثي.
الموقف الأمريكى لم يقف عند هذا الحد، بل يعادى كل من يحاول أن يقول كلمة حق وصدق وعدل، ويدعو إلى إنصاف الشعب الفلسطينى والعيش على أرضه بحل الدولتين ووقف العدوان، فوجدنا واشنطن ترفض تصريحات الرئيس البرازيلى بتشبيه الحرب الإسرائيلية على غزة بالمحرقة النازية، ويتبجح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ويدعى قائلا «إننا لا نعتقد بحصول إبادة فى غزة».
وتتواصل التصريحات «الدموية» من المسئولين الإسرائيليين، ويقولون صراحة إنهم يستهدفون القضاء على أهل غزة وكأن سكان القطاع جميعا من حماس، ولا يضعون فى اعتبارهم إعادة المحتجزين لدى الحركة ويتوهمون أنهم قادرون على استعادتهم بالقوة، رغم فشل كل محاولاتهم.
لا شك أن الموقف معقد، وأن النوايا والتصرفات الإسرائيلية والأمريكية الخبيثة واضحة ومستمرة.