لا فرق بين الرئيس الأمريكى الحالى «ترامب» الذى ينتمى للحزب الجمهوري، وسلفه الديمقراطى «بايدن» فى التعامل مع القرارات الخاصة بحرب الإبادة الجماعية التى تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية منذ 81 شهراً.
يوم الجمعة الماضي، كان الفيتو الأمريكى جاهزا وحاضرا فى مجلس الأمن الدولي، لمنع صدور قرار أجمع عليه أعضاء المجلس الأربعة عشر، لوقف اطلاق النار فى غزة.. تماما كما كان جاهزاً وحاضرا فى واقعة مماثلة تماما، فى نفس المجلس، فى عهد الرئيس السابق بايدن.
منع صدور قرار بوقف اطلاق النار يحظى بهذا الإجماع الدولي، يعنى تصريحا باستمرار عمليات القتل الإسرائيلية والتجويع، والإبادة، والتهجير ضد المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء، وشباب وشيوخ، وتدمير كل وسائل الحياة المتبقية على الأرض الفلسطينية المحتلة.
القاعدة المعروفة فى العلاقات الدولية، أن ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل، هو تحالف أبدي، وأن أى رئيس أمريكى لا يحتاج لمن يلقنه هذه القاعدة، لأنه يدرك جيداً، أنه بدون أصوات اللوبى الصهيونى فى بلاده، ما كان له أن يصل إلى مقعد الرئاسة.
لكن الفرق مع ترامب، أنه بشّر العالم والأمريكيين، خلال حملته الانتخابية الأخيرة بأنه سيعمل على إحلال السلام فى العالم، وأنه قادر على إنهاء الحروب فى أوكرانيا وفى الشرق الأوسط وفى غيرهما خلال المائة يوم الأولى من توليه السلطة، وأن هذه الحروب ما كانت لتشتعل أصلا لو كان موجودا فى البيت الأبيض.. وبوضوح أكثر، أنها حروب بايدن وليست حروبه.
بالطبع، كانت مجرد وعود انتخابية من شخص لا دراية له بواقع هذه الحروب، ولم يتعامل مع أبعادها وتفاصيلها، بدليل أنه مازال عاجزا حتى الآن عن إحداث اختراق جدى مؤثر فى أى حرب منها يحمل مؤشرا على قرب نجاحه فى إنهائها.
لقد قاده خياله إلى أن إنهاء حرب روسيا فى أوكرانيا، هو الأسهل، فبدأ نشاطه الدولى بفتح ملف هذه الحرب، وهنا ظهرت المعايير الأمريكية المزدوجة فى التعامل مع هذه الحرب، وحرب إسرائيل فى غزة.
ترامب يسعى طوال الأسابيع الماضية بكل جهده لاقناع الرئيس الروسى بوتين بقبول وقف اطلاق النار ـ ولو جزئيا فى أوكرانيا.. بينما لا يبذل نفس الجهد لاقناع نتنياهو بذلك فى غزة.
بل على العكس.. عندما لاحت فرصة أمام أمريكا فى مجلس الأمن للانضمام إلى الاجماع الدولى داخل المجلس لإصدار قرار بوقف اطلاق النار فى غزة، تصدت بالفيتو لمنع صدوره انحيازا لإسرائيل وتصريحا باستمرار الحرب.
وقبل ذلك، فإن كل ما يصدر عن جهود أمريكية فى الوساطة الثلاثية مع مصر وقطر بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، من خلال المبعوث الأمريكى «ويتكوف» وما يقدمه من مقترحات، تصب جميعها فى مصلحة إسرائيل وضد الطرف الفلسطيني.
وعندما يتحدث ترامب عن دوافعه فى العمل على وقف الحرب الروسية فى أوكرانيا، يضع فى مقدمة هذه الدوافع أن هذه الحرب أدت إلى سقوط الكثير من الضحايا، وأنه يريد وقفها لانقاذ الأرواح.. بينما لا يتحدث بذلك عن الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
بل إنه مع بدء مفاوضات اسطنبول بين روسيا وأوكرانيا قبل أسبوعين، واتفاق الطرفين على تبادل الأسرى وجثامين القتلي، تبين من الأرقام الرسمية المقدمة من وفدى التفاوض، أن إجمالى القتلى فى حرب مستمرة من ثلاث سنوات لا يساوى شيئا قياسيا على أعداد الشهداء الفلسطينيين فى حرب الـ 81 شهراً.
وأن أكثر من تسعين بالمائة من هؤلاء القتلى عسكريون، لأنها حرب نظامية بين جيشين.. بينما نفس النسبة تقريبا من شهداء غزة والضفة هم من المدنيين العزل، الذين جاءت إليهم آلات القتل الإسرائيلية والأمريكية فى بيوتهم وشوارعهم ولم يذهبوا هم إليها.
ومن تابع ـ على سبيل المثال ـ الهجمات الانتقامية الروسية الأخيرة على عاصمة أوكرانيا «كييف» ومدنها الرئيسية، رداً على عملية «خيوط العنكبوت» التى شنتها أوكرانيا ضد المطارات الحربية الروسية فى العمق الروسي، سيجد أن أعداد ضحايا كل هجمة، والصادرة من وزارة الدفاع الأوكرانية، والمعلنة فى نشرات الأخبار العالمية، لا تتجاوز عدد أصابع اليدين إلا قليلاً.. مقارنة بمئات الشهداء الفلسطينيين الذين يسقطون «يومياً» بآلة الحرب الإسرائيلية.. وجميعهم من المدنيين، فضلا عن المصابين.
ومع ذلك.. لعله خير..
أن تتصدى أمريكا للإجماع الدولى فى مجلس الأمن، وتعطل صدور قرار بوقف الحرب فى غزة، والسماح باستمرارها، هو اعتراف أمريكى رسمى بأنها جزء لا يتجزأ من جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
وأنها ليست فقط شريكا إستراتيجيا لإسرائيل فى ارتكاب هذه الجريمة، بل ومحرض لها على الاستمرار فيها، لأنه لولا الفيتو، لما استمرت إسرائيل فى الحرب.
وأن أمريكا ترامب تفعل ذلك فى ذروة شبه إجماع شعبى عالمى على إدانة هذه الحرب، والتصدى لوقفها بكل الطرق السلمية الممكنة.
وأن هذا التيار الجارف لم يعد شعبياً فقط، بل رسمى أيضا، ويكفى أن حكومة بريطانيا التى أنشأت إسرائيل أصلا بوعد بلفور، قد بدأت تنأى بنفسها عنها، وتقود تحالفا منها ومن إستراليا ونيوزيلندا والنرويج، ليس فقط لوقف الحرب، بل أيضا لفرض عقوبات على وزيرى المالية والأمن الإسرائيليين المتطرفين لأول مرة، بتجميد أصولهما لديها ومنعهما من السفر.
فى وقت تعانى فيه إسرائيل وأمريكا معا من انفجارات شعبية وحكومية وصراعات غير مسبوقة.
نحن الآن فى ذروة التفاعل العالمى مع القضية الفلسطينية.. ويبدو أن هذا التفاعل سيكون كمياه النهر، إذا انطلقت من المنبع، فإنها لا تعود إليه أبداً.