فرعونية جرت مع مياه النيل ففاضت بالخير ورائحة الأعياد.. سابحة فى أعماق التاريخ.. مالحة بطعم شواطئ المحروسة.. عتيقة بعراقة شوارعها..
هى و جبة «الفسيخ» المصرية الأصيلة.. حول بداياتها وتاريخها.. فوائدها ومخاطر الإسراف فى تناولها.. تدور السطور التالية..
يقبل الكثيرون، بعد نهاية شهر رمضان المبارك وحين تهل علينا أيام عيد الفطر، على تناول بعض الوجبات التى يصعب تناولها خلال أيام الشهر الكريم سواء على موائد الإفطار أو السحور، ومن بين تلك الوجبات وجبة الفسيخ المصرية الشهيرة التى يعشقها الكثيرون ربما دون أن يعرفوا سبب تسميتها بذلك الاسم..
ترجح المصادر اللغوية والمعاجم العربية فى سبب التسمية أنه عند إضافة الملح إلى السمك وتخزينه «يتفسخ» السمك ويصبح «فسيخًا» وهى صيغة مبالغة تعنى «شديد التفسخ أو التفكك»، فالفسيخ فى المعجم الوسيط: «ضرب من السمك المملح يترك حتي يتفسخ»، وهو السبب الأقرب للصحة فى التسمية..
لكن رواية أخرى ذات طابع أسطورى تقول إن سبب التسمية يعود إلى أحد الطهاة الذى طلب مجموعة من الأسياخ الحديدية لاستخدامها فى طبخ نوع جديد من الاكلات من سمك البورى وطلب عدد أسياخ بلغ ألف سيخ، لإعداد الوجبة لعدد كبير من الناس ومع انتهاء الطهاة من التجهيز أطلق عليها اسم «ألف سيخ» ومع الوقت أدمجت الكلمتان فى كلمة «الفسيخ».
أما عن قصة المصريين مع الفسيخ فقد بدأت منذ عهد الفراعنة، وبالتحديد فى زمن الأسرة الخامسة، حيث استخدم الفراعنة أنواعًا مختلفة من الأسماك مثل البورى والشبوط والبلطي، كما يظهر من خلال رسومات جدران المقابر، فالمصرى القديم هو أول من أكل الفسيخ، وكان يتناوله الفراعنة قبل البدء فى بناء الأهرامات، اعتقادًا منهم بقدرته على منحهم الطاقة والقوة.
وتفنن المصريون فى عمل الفسيخ، وكانت تٌخصص لصناعته أماكن أشبه بالورش، كما يتضح من نقش فى مقبرة الوزير «رخ-مي-رع» فى عهد الأسرة 18، ثم استمرت صناعته وانتشرت فى كل مناطق مصر ومحافظاتها، حتى صار من أشهر الوجبات فى مختلف أنحاء مصر، ما حدا بالمفكر والمؤرخ المصرى أحمد أمين الطباخ، فى موسوعته «قاموس العادات والتقاليد والتعبير المصرية» المكتوب فى عام 1953، أن يقول عنه فى كتابه: «كثيرا ما تجد الفلاح ماش فى الطريق بيده اليسرى فسيخة وبيده اليمنى رغيف، يقطم من هذا قطعة ومن ذلك قطعة، وتحبه النساء كثيرا، ونساء المدن يصلحنه بوضع زيت وخل أو زيت وليمون عليه».
لكن تبقى بعض المحافظات والأحياء المصرية هى الأشهر على الإطلاق فى صناعة الفسيخ منها مدينة بسيون بمحافظة الغربية، والتى تشهد إقبال الآلاف طوال أيام العام، للوقوف طوابير طويلة، للحصول على الفسيخ، لجودته وانخفاض أسعاره مقارنة بالمناطق الأخري، ومدينة إسنا بالأقصر، وهى أول مدينة فى التاريخ عرفت صناعة الفسيخ، وكانوا يستخدمون قشر البياض فى إعداده، حتى صار السمك المجفف رمزًا للمدينة فى العصر البطلمي، وتعتبر إسنا حاليًا من أشهر المدن فى انتاج الفسيخ، وكذلك عزبة البرج فى دمياط، والتى تشهد إقبالًا كبيرًا كل عام من المواطنين على شراء الفسيخ، لما تشتهر به من وجود خلطة سرية فى صناعته، وكذلك مدينة نبروة بمحافظة الدقهلية، والتى تضم عددًا من محال تصنيع الفسيخ، بينما تعتبر منطقة باب اللوق بالقاهرة، من أكثر مناطق المحافظة شهرة بمحال صناعته.
فوائد.. ومخاطر
وكما عرف المصرى القديم الفسيخ كغذاء، اعتقد أيضًا فى أهميته كعلاج من بعض الأمراض، حيث تشير بردية «إيبرس» الطبية إلى أن السمك المملح كان يوصف للوقاية والعلاج من أمراض حمى الربيع وضربات الشمس.
أما حديثًا فلا خلاف بين المصادر الطبية على أن الفسيخ والسمك المملح بشكل عام سلاح ذو حدين، فرغم أضرار الفسيخ بسبب الطريقة يتم تحضيره بها أحيانًا والتى تحتمل إمكانية نمو البكتيريا اللاهوائية خلال فترة التخليل والتمليح، إلا أن هناك بعض الفوائد منها أنه يساعد فى علاج الإمساك واضطرابات الجهاز الهضمي، كما يحتوى على قيمة غذائية عالية، ويعتبر مصدرًا غنيًا للبروتين، إضافة إلى احتوائه على بعض مضادات الأكسدة المهمة جدًا لصحة الإنسان.
لكن لا بد من التأكيد على بعض الأضرار الصحية للفسيخ، والتى تزيد خطورتها مع الإسراف فى التناول منها احتواؤه على كميات مرتفعة من الصوديوم، الذى يؤدى إلى احتباس السوائل داخل والجسم، وهو ما يمثل خطرًا على مرضى القلب والضغط والكلي، إضافة إلى احتمالية الإصابة ببعض الطفيليات التى ربما لا تتسبب فى حدوث أعراض حادة واضحة، لكنها قد تتسبب فى خطورة على المدى البعيد.
ومن المهم أيضًا التشديد على ضرورة التأكد من امتلاك محال بيع الفسيخ للاشتراطات الصحية اللازمة، وأيضًا عدم الإسراف فى تناول الفسيخ والأسماك المملحة بشكل عام.