أنا عندى ٨٦ سنة ولسه بذاكر».. عبارة قالها د.فاروق الباز، وهى تحمل دلالات عميقة ومهمة بضرورة طلب العلم من المهد إلى اللحد.. فالعلم يحمل كل يوم جديدًا لو أغفله صاحبه خرج من السباق، وهذا درس ٌعمليٌ لأبنائنا وطلبة العلم الذين قد يعتريهم شعور بملل أو إرهاق فى دروب التحصيل الدراسي، وتمنى كل واحد منهم أن يتخلص من عبء المذاكرة التى تعكر صفو حياته..!!
النجاح له طريقٌ واحدٌ هو التعلم والعلم، وهذه ثقافة ينبغى أن يتم تكريسها فى مجتمعنا، وحتى يتقبلها الناس أو الأجيال الجديدة تحديدًا، ينبغى أن نحبب طلب العلم إلى قلوبهم، وأن تتحول المدرسة من فصل وحصة ومعلومات تصب فى الدماغ صبًا، وثانوية عامة تمثل معاناة بكل ما تحمل الكلمة من معني، بل وعقاب يخرج منها الطالب بمجموع لا يصلح وحده مقياسًا لجودة فهمه ومعارفه وتحصيله، وارجعوا إن شئتم لنتائج الفرق الأولى لبعض كليات طب الصعيد فى الأعوام الماضية لتعرفوا أنه ليس كل من حصل على مجموع كبير يصلح لكلية «قمة»، وأن كليات الطب والهندسة ليستا وحدهما كليات قمة، وهذا ما أشار إليه الرئيس السيسى أخيرًا عن أهمية تعلم البرمجة وكليات تكنولوجيا المعلومات التى توفر لخريجيها فرص عمل، ورواتب أفضل من كليات نظرية لم تعد سوق العمل تحتاج كل هذا الكم من خريجيها.
ما أحوجنا لحوار عقلانى حول التعليم الحق، وما تحتاجه مصر فعلاً فى هذه الأيام من نوعية الخريجين المناسبة، سواء لسوق العمل أو للبحث العلمي، حوار يتولاه أهل الاختصاص وعلماء النفس والاجتماع، لتحسين صورة التعليم الفنى اجتماعيًا فى أذهان الأجيال الجديدة حتى تقبل عليه طائعة مختارة، فنحن نحتاج للفنيين المهرة الحاصلين على تعليم جيد كما الحال فى ألمانيا التى تحصد 200 مليار دولار سنويًا من العمالة الفنية المدربة فى المصانع ومختلف مواقع الإنتاج.
الحرص على التعلم مدى الحياة مبدأ تعتمد عليه الدول المتقدمة فى مسيرتها، فى الجامعات ومراكز الأبحاث والتصنيع، التعليم والتدريب مقومان أساسيان لا يفترقان إذا أردنا تميزًا فى العلم والعمل.. وتلك ثقافة موجودة فى تراثنا ..
فأولى آيات القرآن «اقرأ» ..ولا يستوى من يعلم ومن لا يعلم ..يقول الله تعالى : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ» «الزمر: 9» ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :»من سلك طريقا يلتمس به علما، سهل الله به طريقا إلى الجنة».. ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام: «مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه ما بعثنى الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به».. لكننا للأسف أغفلناها حتى صار التعليم عندنا وسيلة للحصول على الشهادات والوظائف وليس بناء المعامل وإحراز المخترعات والمكتشفات وبراءات الاختراع.
كلام د.فاروق الباز عن التعلم مدى الحياة شيء عادى لا يختلف عليه اثنان فى الغرب، بل هو ركيزة لا غنى عنه، يقول ابن المبارك-رحمه الله-: «لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل».. فماذا بعد العلم إلا الجهل والتخلف والمرض.
التعلم مدى الحياة وقود التقدم والنهضة، بهما تتزود الأمم بالمعارف فتنتج وتبنى وتحوز أسباب القوة، فالبشر قبل الحجر، نجاح اليابان فقيرة الموارد ليس نتاج غنى الطبيعة بالخيرات بل العكس فيكفى ما يعانيه هذا البلد من غضب الطبيعة والزلازل والأعاصير والكوارث لكن الفيصل هناك عقول البشر التى ضمن التفوق العلمى والاقتصادى حتى باتت ثانى أقوى اقتصاد فى العالم، ناهيك عن التكنولوجيا فائقة التقدم .. أين يكمن السر.. وماذا ينقصنا لنستلهم تجارب النجاح فى كوريا أو ماليزيا أو سنغافورة أو حتى فنلندا..؟!
فى بيتنا امتحانات..!!
أيام وتنطلق امتحانات الثانوية العامة، وما أدراك ما الثانوية العامة، إنها رحلة معاناة واستنزاف مادى للأسر ونفسى للطلاب وأسرهم وفى ظنى أن تلك الثانوية العامة وما يجرى بشأنها كل عام من تنسيق وكليات قمة لا يحدث إلا هنا فى مصر، ولا تجد له مثيلاً فى أى دولة على وجه البسيطة..مليارات الجنيهات تنفقها الأسر المصرية وهى راغمة على دروس خصوصية ربما لا يسدد من يعطونها أى ضرائب للدولة و تنتزع من المدرسة دورها ومن التعليم صفة المجانية التى عاشت وتربت عليها أجيال العظماء أمثال أحمد زويل وفاروق الباز وغيرهما من علماء مصر الأفذاذ..!
فهل حقق «تعليمنا» بصورته التقليدية مقومات الجودة والتطور والقدرة على إنتاج المعرفة، وهل حقق رسالته التربوية فى بناء العقول وتهذيب النفوس وتنمية القيم وبناء الأجسام والأبدان بالرياضة أم لا يزال رحلة عذاب تلهب ظهر كل أسرة مصرية حتى يصل أبناؤها للثانوية العامة ويحصلوا على مجموع بات غاية فى ذاته للالتحاق بـ «كليات قمة» لا تتسع إلا لفئة قليلة.. أما البقية الباقية من السواد الأعظم للشعب فقد تبخرت أحلامهم ولم يجدوا إلا كليات نظرية لا يجد آلاف من خريجيها وظائف وهو ما أشار إليه الرئيس فى معرض كلامه عن كليات الآداب والحقوق والتجارة.. بينما أبناء القادرين والأغنياء يعرفون طريقهم للكليات الخاصة التى كثر عددها وقل نفعها وجودتها!
التطوير المطلوب فى رأيى لابد أن يكون شاملاً لإشباع الاحتياجات الحقيقية للدولة ويوازن بين سوق العمل والتخصصات المطلوبة ويشيد قاعدة بحث علمى على أسس براجماتية يشارك فيها القطاع الخاص الذى عليه أن يكون شريكاً للدولة فى صناعة خريج أو باحث كفء ليجنى ثمرة إنتاجه العلمي.
ولعل ما نحتاجه الآن بشدة هو تحرير العقول من الحفظ والاستظهار وتحريضها على التفكير والحوار والابتكار والتحليل والنقد والمبادرة وقبلها التخلص من كل أنظمة الامتحانات البالية مقبرة التعليم وسيلة الفشل.. نحتاح الآن إلى وضع آليات حقيقية لقياس القدرات واكتشاف المواهب والتقاطها وتنميتها كما تفعل الدول المتقدمة.. وليس بالاعتماد فقط على امتحانات لساعتين أو ثلاث فى كل مادة لقياس مستوى الطالب.. فهل هذا المقياس يكفى للحكم على المواهب والعقول الفذة..؟!
متى تتوقف نظرية «الكم» فى نظامنا التعليمى لتقدم المدارس والجامعات ما تحتاجه سوق العمل من كوادر تعطى قيمة اقتصادية مضافة بدلا من جحافل الخريجين فى كليات نظرية وعلمية تجافى روح العصر ومقتضيات الإبداع والتحول الرقمى والمنافسة الجادة وتصر على السير عكس الاتجاه وتستنزف مقدرات الدولة وفرصها فى التقدم.. مطلوب تغيير شامل لثقافة المجتمع ونظرته للتعليم الفنى والجامعى ولنظم الامتحانات والتقييم إن أردنا تقدمًا حقيقيًا يضعنا فى مصاف العالم المتقدم ؟!