ما هو دور أمريكا الحقيقى بالضبط فى المفاوضات الجارية حالياً لوقف إطلاق النار فى غزة وعقد صفقة تبادل الرهائن والأسرى بين حركة «حماس» الفلسطينية وإسرائيل.
سؤال مهم يتطلب من الخبراء العاملين فى الحقل السياسى والقانونى والدبلوماسى الاجتهاد فى تقديم «توصيف» دقيق ومقنع للرأى العام لهذا الدور ولصالح من أو ماذا.. يتم.
أمريكا على توافق استراتيجى كامل ودائم وفعال مع اسرائيل منذ إعلان قيامها كدولة أو كشوكة فى قلب عالمنا العربى عام 1948 وملتزمة بضمان أمن إسرائيل وتفوقها العسكرى والاستراتيجى على الدول العربية من خلال اتفاقات تعاقدية لم تتعرض للإخلال بها فى أى وقت من جانب أمريكا فى ظل أى إدارة جمهورية كانت أم ديمقراطية.. بل يجرى تعزيزها دائما.
أمريكا – بوضوح – مع إسرائيل القوية، المتفوقة، الآمنة داخل أى حدود يصل إليها سلاحها وضد كل من يتعرض لأطماعها.. وتعتبر هذا جزءاً لا تتجزأ من الأمن القومى الأمريكي.
فأين يقع الدور الأمريكى الحالى من المفاوضات؟!
هل أمريكا «وسيط» بجانب مصر وقطر؟!
أمريكا لا تصلح لهذا الدور لأنها على توافق معلن مع أهداف إسرائيل المعلنة أيضاً من حربها العدوانية فى غزة.
أى انها مع القضاء على حركة حماس.. وتعتبر العدوان الإسرائيلى على غزة دفاعا مشروعا عن النفس واستعادة الرهائن الذين تحتجزهم «حماس» ولو بالقوة حقاً لإسرائيل وكذلك ضمان ألا تصبح غزة مصدر تهديد لأمن اسرائيل مرة أخرى وإلى الأبد.
هل أمريكا «راع» للمفاوضات باعتبارها القوة العظمى المهيمنة على النظام العالمي؟!
فى وجود طرفين للصراع وهما إسرائيل والشعب الفلسطينى بكل فصائله لا يجوز أن تنفرد أمريكا برعاية المفاوضات بينهما لأنها ستقودها لصالح طرف واحد وهو إسرائيل.
ولنا فى سابقة انفراد أمريكا برعاية ما سمى بـ«عملية السلام» فى الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين ما يؤكد ذلك.
انفراد أمريكا برعاية عملية السلام هذه كانت سببا رئيسيا فى إطالتها لأكثر من ثلاثين سنة دون أن تتقدم خطوة واحدة للأمام أو تساهم فى خلق أى أمل لدى الشعب الفلسطينى فى استعادة أرضه المحتلة وحقوقه المغتصبة.
لقد جعلت أمريكا رعايتها المنفردة لهذه العملية غطاءً لعمليات الرفض والتسويف والمماطلة من جانب إسرائيل ودافعا لإحباط الشعب الفلسطينى والشعوب العربية كلها حتى وصل هذا الإحباط إلى نقطة الانفجار فى «طوفان الأقصي».
وقاومت أمريكا خلال تلك العقود كل محاولات المجتمع الدولى لإيجاد شريك لها فى رعاية عملية السلام لتحقيق قدر من التوازن.. وحين ظهرت للوجود بادرة لنجاح هذه المحاولات ممثلة فيما سمى بـ «الرباعية الدولية» بإشراف الأمم المتحدة قامت بتفريغ الرباعية من هدفها ومضمونها وتجميد عملية السلام.
وفى حالتنا الراهنة وقفت أمريكا بكل قوتها عسكريا إلى جانب إسرائيل فى حربها العدوانية فى غزة وسعيها للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
لم توفر فقط لإسرائيل كل ما طلبته من أسلحة وذخائر ومعدات ومعلومات استخبارية لقتل الفلسطينيين والقضاء على كل مظاهر الحياة فى غزة وتشجيع استباحة المقدسات الإسلامية والمسيحية فى الضفة الغربية بل جاءت بأساطيلها لتوفير الحماية للجيش الإسرائيلى وتأمين عملياته عن طريق ردع أى طرف يحاول التحرك عسكرياً لوقف عدوانه.
ووفرت أمريكا لإسرائيل من خلال الفيتو فى مجلس الأمن الغطاء السياسى الدولى لاستمرار عدوانها بتكرار استخدام الفيتو لمنعه ليس فقط صدور أى قرار من المجلس يدعو لوقف اطلاق النار بل أيضاً لمنع صدور أى قرار يتضمن إدانة هذا العدوان.
وحين رأت أمريكا التحولات الكبيرة فى الرأى العام العالمى بل والأمريكى وكذلك فى مواقف عدد من الحكومات ضد عملية الإبادة الجماعية والتهجير القسرى للفلسطينيين واستخدام الغذاء والمياه كسلاح فى الحرب بادر الرئيس بايدن بتقديم مشروع قرار لمجلس الأمن لحفظ ماء وجه بلاده وإدارته المقبلة على انتخابات رئاسية وتخفيف آثار الحرب على اسرائيل وسمعتها يتضمن صفقة لوقف اطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين والشروع فى إعادة النازحين والإعمار فى غزة.
ولم يكن المشروع الذى صدر به قرار بالإجماع من مجلس الأمن مع تحفظ روسيا فقط عليه سوى غطاء جديد لاستمرار العدوان ولكن مع استمرار المفاوضات حول تنفيذه.
والدليل ان من يطلع على منطوق القرار عند صدوره ثم على ما يتم تقديمه على مائدة المفاوضات الآن سيجد فرقا كبيرا بين النصين لصالح إسرائيل نتيجة ما تم ادخاله على القرار بعد صدوره من تعديلات أمريكية وإسرائيلية تخالف ما تم الاتفاق عليه خلال عملية التفاوض.
هذا الأسبوع وصلت إلى إسرائيل الطائرة الأمريكية رقم 500 ضمن الجسر الجوى الأمريكى تحمل أسلحة وذخائر متطورة طلبتها اسرائيل لضمان الاستمرار فى تنفيذ مجازرها البشرية ضد الفلسطينيين.. بينما وزير الخارجية الأمريكى يقوم بجولته السادسة أو السابعة فى المنطقة للمساعدة فى «سد الفجوة» فى موقفى اسرائيل وحماس فى المفاوضات!!
الهدف من كل هذا السرد هو إلقاء الضوء على مأزق المفاوضات الحالى والذى لا يبشر بنهاية سعيدة.. ولا ضمانات للالتزام من جانب إسرائيل بأى مخرجات تتعارض مع أهدافها التى تدعمها أمريكا.
الهدف من كل هذا السرد أيضاً هو إدراك حجم العبء الوطنى والقومى والدولى الذى تتحمله مصر وقطر كوسيطين فى المفاوضات والمعاناة التى تعيشها قيادات البلدين فى هذه القضية نتيجة عدم ثبات مواقف الأطراف والمتغيرات التى تجرى على الأرض فى اتجاه مضاد للتفاوض بحيث يصحو فريقا الوساطة كل يوم على شروط جديدة من هنا وتعديلات مقدمة من هناك لتبدأ حلقة جديدة من مسلسل لا تبدو له نهاية.
وما يجعل مصر وقطر وسيطين مقبولين من إسرائيل وحماس هو نفسه ما يسبب لهما حساسية خاصة وعبئا إضافيا، فالدولتان ترتبطان بشراكة استراتيجية مع أمريكا وبعلاقات مع إسرائيل ومواقفهما ثابتة من القضية الفلسطينية دعماً لحق الشعب الفلسطينى فى استعادة أرضه المحتلة وإقامة دولته المستقلة فى حدود الخامس من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
الأمر يستدعى ظهيرا عربيا وإسلاميا ودوليا إلى جانب مصر وقطر، إذا كنا نتحدث فعلاً عن «سد الفجوات» فى المفاوضات لأن الفجوة الكبرى هى بقاء القضية فى قبضة الراعى الأمريكى منفرداً.