لقد أدركت الدولة المصرية أن معركتنا الفاصلة فى السنوات المقبلة هى معركة «بناء الوعي»، ولذلك لم يكن غريبًا أن نجد الرئيس عبدالفتاح السيسى يتكلم فى أغلب المناسبات عن قضية بناء الوعى وصناعته وأهميتها وآلياته وأهم أدواته، وكان آخرها الاحتفال السنوى بالمولد النبوى الشريف الذى تنظمه وزارة الأوقاف حيث أكد الرئيس السيسى أهمية التمسك بالأخلاق الإسلامية العاصمة من الإلحاد والشذوذ الفكري، بما يمثل تهديدًا للأخلاق والقيم المجتمعية، كما حرص الرئيس السيسى على ضرورة تنمية الوعى بصفة عامة، مجددا مطلبه بأن يكون الخطاب الدينى قادرا على معالجة هذه القضايا بما ينعكس حقيقة على مستوى الوعى الجمعى فى مجتمعنا، ولا شك أننا نحتاج مضاعفة الجهود لتكريس مبادئ الوعى ومنطلقاته بشكل أكثر فاعلية وتأثيرًا، إلا أننا فى الجملة بدأنا نلحظ تغيرًا ملموسًا لا سيما فى الوعى لدى شريحة الشباب تجاه القضايا والتحديات المعاصرة، وهو ما يعد نجاحًا فى هذا الصدد؛ لأن الشباب هم الفئة الأكثر استهدافًا فى الخطط التنموية والاستراتيجيات المستقبلية، وهم الفئة الأكثر أهمية فى عملية بناء الوعي، لكونهم الوقود المحرك لعملية البناء الحضارى بوجه عام.
ولا شك أن العالم الآن يشهد ثورة هائلة فى مجال الاتصالات والمواصلات تجعلنا فى بعض الأحيان فى حيرة من أمرنا فإن كل تقدم خاصة فى مجال التكنولوجيا ومجال الفضاء الإلكترونى الذى له بطبيعة الحال انعكاسات وتأثيرات قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية على القيم الدينية والمجتمعية والأخلاقية، ولا يمكن أبدا أن نتجاهل ما يحدثه التطور المذهل بشكل عام من تغيرات كبيرة فى حياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم الاجتماعية والأخلاقية.
قد أبرزت دار الإفتاء المصرية فى فتاواها الجوانب الإيجابية والسلبية فى الفضاء الإلكترونى فأفتت بجواز صورٍ من البيع الإلكترونى الذى أصبح من أساسيات الحياة المعاصرة ويحقق مصالح العباد، ومن أهم فتاواها: التعامل التجارى فى الذهب والفضة بيعًا وشراءً عن طريق التسوق الإلكتروني، وفتوى بيع (اللايكات) إن كان ذلك عن طريق الإعلان والترويج للصفحة أو المنشور فى مقابل معلوم.
وأما عن جانب السلبيات فقد أصدرت الدار فتاوى عديدة، منها تحريم العديد من الممارسات على الفضاء الإلكترونى لضررها العام والخاص.
ومن هذه الفتاوي: الفتوى الخاصة بتحريم نشر البيانات الشخصية والأسرار الخاصة بالآخرين، سواء على شبكات التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية أو غيرهما؛ وذلك لأنَّ خصوصية الإنسان لا يحل لأحدٍ التعدى عليها، كما أن إفشاء أسرار الناس أمرٌ يُسبِّب الأذى والضرر، وإيذاءُ الناس مذمومٌ فى الشرع وقد وَرَد المنع والتحذير منه؛ قال الله تعالي: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
وقد أشارت الدار فى فتاواها أيضًا إلى أن الإنترنت وسيلة ثقافية للاتصال بين المجتمعات وفيه النافع والضار، وتقع المسئولية على من يستخدمه.
إن التقدم التكنولوجى سيظل يحمل بين طياته الخير والشر فى آن واحد، وعلى الإنسان الفَطِن التمييز بين النافع والضار، فيستفيد من النافع ويرغب عن الضار، قال تعالي: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ}، وطالما اعتنت مؤسسات الفتوى المنضبطة ببيان الأوجه النافعة ورغَّبت فيها والأوجه الضارة ومنعت عنها؛ فقامت الفتوى بذلك بدورها فى مواجهة أحد أهم التحديات المعاصرة.
القضية الكبرى التى تهتم بها دار الإفتاء المصرية هى قضية إيقاظ وعى المصريين وتنبيههم لما يحاك ويدبر لهم، إن الدور الوطنى الذى تلعبه دار الإفتاء المصرية فى تقوية اللحمة المصرية سواء على مستوى قضية الوحدة الوطنية بين مكونى الأمة من مسيحيين ومسلمين، أو على مستوى اللحمة الوطنية بين الشعب ومؤسسات الدولة الوطنية من جيش وشرطة وأزهر وكنيسة، وتعليم، والقيام بتنبيه الشعب المصرى إلى ما تقوم به هذه المؤسسات من جهد يحتاج إلى مساندة ودعم وتكاتف حتى نعبر للمستقبل على خير وسلام وأن هذه الروح الوطنية لابد أن تكون سارية فى كل وقت وليس فى هذه الأوقات فحسب.
كل هذا نابع من إدراك دار الإفتاء المصرية إلى الرسالة الوطنية المنوطة بها والتى تمارسها بحب وإخلاص وعلم ومؤسسية وتعاون وتواصل مع جميع المؤسسات، وفصائل الشعب عبر وسائل الاتصالات والسوشيال ميديا، إن إدراكنا إلى عموم وشمول الشريعة الإسلامية وعدم انحصارها فى الإفتاء التقليدي، جعلنا ندرك أن الإفتاء ليس مجرد ذكر حكم فى قضية طلاق أو ميراث، بل هو شامل لكل قضايا المجتمع، فانطلقت مسيرتنا من فهمنا الصحيح لرسالة الفتوى ودورها الهام الكبير فى استقرار المجتمعات وتحقيق الأمن ومواجهة التحديات ومواكبة المستجدات والخروج بالأمة من دياجر ظلمات الجهل والتطرف والإرهاب والإرجاف إلى نور العلم والعمل والاستقرار، بما يحقق مقاصد الشريعة ويبرز معنى أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.