قدم الرئيس السيسي، للرئيس الأمريكى ترامب، خلال الاتصال الهاتفى الذى جرى بين الرئيسين هذا الأسبوع، عرضاً فى منتهى الذكاء، حين ذكره بما قاله فى خطاب تنصيبه فى العشرين من يناير بأنه جاء لإحلال السلام فى العالم وإنهاء الحروب والصراعات، وقال له إن الشرق الأوسط فى حاجة إلى السلام، وهذه فرصتك.
أعجبنى المغزى الذى انطوى عليه هذا العرض، وهو أنه إذا كان الرئيس الأمريكى يطمح حقاً فى أن يسجل اسمه فى التاريخ بأنه «صانع السلام»، فأكثر الساحات فى العالم حاجة إلى السلام والاستقرار هى الشرق الأوسط وهى مفتوحة أمامه، وشعوبها قبل حكوماتها ترحب بكل جهد حقيقى من أجل إنهاء صراعها الرئيسى الذى يدور حول القضية الفلسطينية، وأسس الحل موجودة وموثقة فى قرارات الأمم المتحدة ومواثيقها، ولا ينقصها سوى توافر إرادة التنفيذ.
وأسس الحل هذه ليس من بينها أبداً أن المدخل لإقرار السلام هو تهجير الشعب الفلسطينى من أرضه وإضافة هذه الأرض لدولة الاحتلال لتوسيع مساحتها، ولا التشكيك فى إمكانية استدامة وقف إطلاق النار فى غزة الذى تم تنفيذ مرحلته الأولى بوتيرة مقبولة، حتى يتخذ الاحتلال هذا التشكيك غطاء لاستئناف القتل والتدمير والعصف ببارقة السلام الوحيدة المتاحة الآن على الأرض.
إن الرئيس ترامب فى حديثه عن السلام، مقارنة بموقفه العملى الذى يصر عليه حتى الآن، وهو أنه يريد أن يرى مصر والأردن توافقان على استقبال مليون ونصف المليون فلسطينى من غزة، يختار المدخل العكسى تماماً لتحقيق السلام.. أو هو أشبه بقائد السيارة الذى يعطى إشارة باتجاهه إلى اليمين بينما يتحرك بالسيارة يساراً.
ورأيى أن العرض الذى قدمه الرئيس السيسى للرئيس الأمريكى يصلح للبناء عليه، والإلحاح به على ترامب، والتأكيد على أن الشرق الأوسط هو المكان الأكثر قدرة على تخليد اسمه كصانع سلام حقيقي، بل وربما حصل منه على جائزة نوبل للسلام ليكون أول ملياردير عقارات فى العالم ينال هذا الشرف.
يمكننا أن نطرح على الرئيس الأمريكى حاجته هو شخصياً لأن يصبح صانع سلام حقيقي.
إن ترامب يكره الديمقراطيين، وطالما حملهم فى حملاته الانتخابية الثلاث: 2024-2020-2016 مسئولية تراجع مكانة أمريكا فى العالم، واتهمهم بإفسادها أيضاً بسياساتهم الداخلية، وقدم نفسه فى هذه الحملات للناخبين الأمريكيين باعتباره «المنقذ» والرجل الذى «سيجعل أمريكا عظيمة مرة أخري»، وها هو يعبر مؤخراً عن رغبته فى أن يكون صانع سلام على مستوى العالم.
يمكننا أن نذكر ترامب ـ فى هذه النقطة ـ بأنه على مدار ما يقرب من خمسين سنة مضت، وتحديداً من عام 1977، توالى على رئاسة أمريكا ثمانية رؤساء، أربعة منهم ديمقراطيون هم: كارتر ـ كلينتون ـ أوباما ـ وبايدن، وأربعة جمهوريون هم: ريجان ـ بوش الأب ـ بوش الابن.. وترامب نفسه فى فترة رئاسته الأولي.
هل يعرف ترامب، ومؤكد أنه يعرف، أن التاريخ لم يسجل فى قائمة الخالدين من بين هؤلاء الثمانية جميعاً ـ كصانع سلام حقيقى إلا واحداً فقط هو الرئيس كارتر.. الديمقراطي، وهو تخليد لا يشرف كارتر بشخصه، ولكنه ينسحب أيضاً على حزبه؟!
وكما كان كارتر أول هؤلاء الرؤساء الثمانية تولياً للرئاسة، كان آخرهم بايدن، الذى رغم كل سوءات إدارته فى التعامل مع القضية الفلسطينية، خاصة بعد طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر 3202 وتزويد إسرائيل بكل احتياجاتها من السلاح والأموال والدعم اللوجيستى والمخابراتى فى حربها على غزة، إلا أنه أصر على أن لا يرحل عن الرئاسة قبل أن يترك بصمة إيجابية بنجاحه فى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة، وهو بصمة سلام كان فى حاجة إليها لتبييض سجله الأسود فى هذه الحرب؟!
هل يعرف ترامب، ومؤكد أنه يعرف، أن التاريخ ـ على العكس من ذلك ـ لم يسجل للرؤساء الجمهوريين الأربعة بصمة سلام واحدة فى منطقتنا وقضيتنا الرئيسية على الأقل.. بل على العكس.
بوش الأب، عندما أنشأ تحالفاً دولياً لتحرير الكويت من الغزو العراقى وعدنا بأنه سيطبق على القضية الفلسطينية بعد تحرير الكويت نفس الشرعية الدولية التى تعامل بها مع الاحتلال العراقي.. وتجاهل وعده بعد انتهاء الحرب.
بوش الابن، هو من قام بغزو العراق عام 2003، والإطاحة بصدام حسين، وهو الغزو الذى مازالت العراق وأمريكا أيضاً لم تبرأ من تبعاته.
أما ترامب، فهو الذي، فى فترة رئاسته الأولي، نفذ قراراً تردد فى تنفيذه كل من سبقوه فى الرئاسة وهو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها.
تاريخ الرؤساء الجمهوريين فى مواقفهم من منطقتنا وسلام وأمن شعوبها، «بما فى ذلك سلام وأمن إسرائيل» لا يرقى بأى من هؤلاء الرؤساء إلى مرتبة صانع سلام حقيقي.
وأقول وأكرر «ربما فى ذلك سلام وأمن إسرائيل» لأنه كلما تمادى هؤلاء الرؤساء أو غيرهم فى دعم إسرائيل وتشجيعها على الاستمرار فى احتلال فلسطين وإنكار حقوق شعبها، كان ذلك داعماً لأنصار المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال، ومحبطاً لتيار السلام ودعاته بين الفلسطينيين أنفسهم وعلى مستوى شعوب المنطقة كلها.
وبالطبع، هذا لا يخصم من رصيد الرؤساء الجمهوريين فقط، بل من رصيد حزبهم أيضاً.
إن ترامب، بشخصيته المولعة بالعظمة الشخصية، وبرغبته المعلنة فى أن يكون صانع سلام لديه هذه الفرصة، لكى يكون أول رئيس أمريكى جمهورى ينجح فى تحقيق إنجاز تاريخى يفتح أوسع الأبواب لسلام دائم واستقرار كامل فى الشرق الأوسط بالسعى لتحويل حل الدولتين إلى حقيقة على أرض الواقع.
لقد نجح كارتر الديمقراطى فى إنجاز أول تجربة سلام عربى إسرائيلي، بمعاهدتى السلام بين كل من مصر واسرائيل وهى تجربة امتلكت مقومات الصمود فى وجه الكثير من المعوقات وعاشت حتى اليوم.. لكن الإصرار على تهجير الفلسطينيين إلى الدولتين كفيل بنسف هذه التجربة وتحويل الشرق الأوسط إلى جهنم.
ولن يكسب أحد من وراء ذلك شيئاً، وفى مقدمتهم ترامب نفسه وإسرائيل معه.
وبدلاً من أن يحقق سلاماً دائماً يخلده ويخلد حزبه وإدارته وأمريكا التى يريدها عظيمة مرة أخري، فسيخرج من التاريخ بجريمة أكبر من جريمة الإبادة الجماعية التى تورطت فيها إدارة سلفه بايدن الديمقراطية، لأنه سيضيف إليها جريمة انتزاع ما تبقى من الشعب الفلسطينى من أرضه، حتى لو نقلهم إلى الجنة، لأن جنة الله الحقيقية تنتظرهم شهداء.
من ينقل هذه الرسالة إلى الرئيس الأمريكى ويدعوه إلى تبنى المدخل الصحيح لصناعة السلام فى الشرق الأوسط كمقدمة للنجاح فى صناعة السلام فى بقية مناطق العالم الملتهبة؟!