فى كل عصر من عصور التاريخ، كان للبشرية قفزاتها الكبرى التى بدلت مسارها، وغيرت صورة العالم أمام أعين أبنائه، واليوم ونحن نودع الربع الأول من القرن الحادى والعشرين، نشهد تطورعصر جديد، ليس كما عرفناه فى مخاضات الثورة الصناعية أو ثورات التحرر الوطني، بل عالم تتصدره عقول مصطنعة، وآلات تفكر، وروبوتات تمشى بيننا.. إنه عصر الذكاء الاصطناعى والذكاء الاصطناعى العام، عصر تتداخل فيه مفاهيم الإنسان والآلة فى جدلية وجودية لا عهد لنا بها، فلم يعد الذكاء الاصطناعى أداة على هامش الحضارة؛ بل غدا شريكًا فاعلاً فى صناعتها.. فى الاقتصاد، أصبح من المعتاد أن نرى منصات رقمية تدير مليارات الدولارات عبر خوارزميات لا تنام، وفى الطب، تقف أنظمة ذكية بجانب الجراحين لتعينهم على تشخيص أدق الأمراض، وفى الإعلام، لم تعد المعلومة تكتب بيد الصحفى وحده، بل قد تساهم آلة تعرف كيف تختار الكلمة وتزن المعني، وهكذا بدا أن الإنسان دخل طورًا جديدًا من العلاقة مع أدواته: أدوات تفكر، وتتعلم، وتستبق الحدث.. هناك ما هو أبعد من الذكاء الاصطناعى الذى نعرفه.. إنه الذكاء الاصطناعى العام، الذى يعنى أن العقل البشرى قد وجد نفسه لأول مرة فى التاريخ أمام منافس جدّى على السيادة العقلية، ليس فى الخيال فقط، بل فى قدرتنا الواقعية على الفهم، والتفكير، والإبداع.
يرى خبراء إن ظهور الذكاء الاصطناعى العام قد يحل أعقد معضلات البشرية: من استئصال الأمراض المزمنة إلى معالجة تغير المناخ، ولكن فى ذات اللحظة، يكمن الخطر، لأن ذكاءً لا تحده غرائز إنسانية ولا تضبطه منظومات القيم، قد ينزلق بالعالم إلى طرق لا رجعة منها.. الروبوتات وهى الجسد الجديد للعقل والتى لم تعد مجرد أذرع آلية على خطوط الإنتاج، بل أصبحت تمتلك القدرة على الحركة المستقلة، واتخاذ القرار، بل وحتى التفاعل الاجتماعي.
فى المصانع والمزارع والمستشفيات، تنتشر روبوتات قادرة على أداء مهام كانت فيما مضى حكرًا على الإنسان، مما يعيد صياغة أسئلة كانت تبدو بديهية:
ماذا يعنى أن تعمل؟ ماذا يعنى أن تتعلم؟ وماذا يعنى أن تتواصل؟
لم يعد التحدى الأكبر هو تطوير التكنولوجيا، بل ضبطها وتنظيمها.
إذا استطاعت الآلة أن تفكر، أن تكتب، أن تؤلف الموسيقي، أن تبدع الفن، فما الذى يبقى للإنسان ليعرف نفسه به؟.. إن المستقبل كما كان دائمًا، ليس قدَرًا محتومًا، بل قرار يُتخذ.. إن ما نصنعه بالذكاء الاصطناعي، وما نسمح له أن يصنعه بنا، هو التحدى الأعظم لهذا الجيل.
إذا كان لكل زمن أسلحته وأبطاله، فإن زمننا هذا ينتظر من يحسن قيادة العقل أمام موجة العقول الاصطناعية القادمة.