لم تكن صدفة أن يصدر معهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام فى السويد تقريره الذى نشره منذ يومين فقط وحذر فيه من أن الأسلحة النووية تعود إلى الواجهة بقوة، وتهدد بزعزعة الاستقرار العالمي، وأن دورها أصبح أكثر بروزا مما كان عليه منذ الحرب الباردة.
فالأسابيع القليلة الماضية شهدت تصعيداً متبادلاً فى لغة التخاطب النووى بين الغرب ممثلا فى الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي، وبين روسيا، فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية من ناحية،وبالتمدد الغربى فى منطقة شرق آسيا والباسفيك.
ولم يقتصر التصعيد على لغة التخاطب وحدها، أى التصريحات الكلامية، بل امتد إلى ترجمة هذه التصريحات إلى تحركات وأفعال على الجانبين، بحيث يمكن القول بأنه إذا استمر هذا السلوك، بنفس الوتيرة، أى الفعل ورد الفعل، دون توقف، فإن العالم قد يجد نفسه خلال الستة شهور المتبقية من هذا العام على حافة هاوية حرب نووية عالمية.
التصعيد النووى الحالي، نابع من التطورات الميدانية الأخيرة فى الحرب الروسية ـ الأوكرانية.. روسيا تتحرك عسكريا بثقل أكبر على الأرض، وتكسب فى كل يوم موقعا أو مواقع جديدة من أوكرانيا، بما يعكس إصرارا واضحا من الرئيس الروسى بوتين على حسم الحرب لصالح بلاده، فإن لم يستطع ميدانيا، فعلى الأقل الوصول إلى النقطة التى تجبر أوكرانيا والغرب على الجلوس إلى مائدة المفاوضات وهو يمضى فى ذلك بنجاح حتى الآن، مستغلا حالة الإنهاك التى أصابت الجنود الأوكران، ونقص الذخائر والتدريب، وتأخر وصول بعض شحنات الأسلحة والمعدات الأمريكية والأوروبية، والقيود التى اضطرت أمريكا إلزام القوات الأوكرانية بها، وهى ألا تستخدم الأسلحة الأمريكية فى ضرب الأراضى الروسية، بعد إعلان بوتين أن ذلك ـ أن حدث ـ يمثل تورطا عمليا لحلف الاطلنطى فى الحرب، وبالتالى يستلزم ردا روسيا مضادا.
لكن الضغط العسكرى الميدانى الروسى المتزايد، جعل أمريكا تغامر بإعفاء القوات الأوكرانية من بعض هذه القيود، فلا تكتفى بقتال القوات الروسية الموجودة على مساحة عشرين بالمائة من أراضيها، بل يمكن أن تضرب ما وراء هذه الخطوط أيضا، لتخفيف الضغط الداخلى عليها.
وفى نفس الوقت، أسفر هذا الضغط عن عودة الغرب إلى أحاديث السلام فى أوكرانيا، وعقد هذا الأسبوع مؤتمر دولى للسلام دعت إليه أوكرانيا ونظمته سويسرا برعاية أمريكية أوروبية حضرته وفود من تسعين دولة، بينها خمسون رئيس دولة وحكومة.
لكن غياب روسيا والصين عن المؤتمر قلل من فاعليته السياسية.. روسيا غابت لأن الرئيس الأوكرانى زيلنسكى رفض توجيه الدعوة إليها للحضور.. أما الصين، فرغم أنها تلقت دعوة للحضور باعتبارها صاحبة أهم مبادرة للسلام فى أوكرانيا موجودة على الساحة، فقد اعتذرت لسبب وجيه، وهى أنها اعتبرت أن المؤتمر ـ فى غياب روسيا ـ لن يكون ممثلا لأطراف المشكلة.
على الصعيد المادي، كسبت أوكرانيا خمسين مليار دولار من المؤتمر قرضا غربيا من أموال الأصول الروسية المجمدة لدى الغرب ضمن حزم العقوبات الغربية ضد روسيا، وكسبت معاهدة أمنية مع أمريكا مدتها عشر سنوات لتوفير الدعم لها فى المستقبل.
لكن الحصيلة السياسية للمؤتمر كانت فى صالح روسيا، فقد انحاز بيانه الختامى إلى وجهة نظر الصين الداعمة لروسيا، إذ قرر أن «التوصل إلى السلام يتطلب مشاركة جميع الأطراف وإجراء حوار بينها».
وقد تدرج الموقف الروسى من المؤتمر، من إعلان الرئيس بوتين عشية انعقاد المؤتمر، أن السلام مع أوكرانيا ممكن بشرطين.. أن تتخلى عن الأقاليم الأربعة التى احتلتها قواته وضمتها إلى روسيا، وأن تنسى فكرة أن تنضم لعضوية حلف الأطلنطي.
ثم، فى مواجهة الرفض الأوكرانى والغربى للشرطين، وتمسك المؤتمر فى بيانه الختامى بمبدأ وحدة أراضى الدول وسيادتها عليها، أعلن بوتين أنه منفتح على التفاوض، ولا يستبعد إجراء محادثات مع أوكرانيا، لكن ستكون هناك حاجة إلى ضمانات من أجل مصداقية أى مفاوضات.
الأنباء التى خرجت من كواليس مؤتمر سويسرا، أشارت إلى أن دولا صديقة لروسيا حضرت المؤتمر مثل الهند وتركيا والإمارات لاستكشاف آفاق السلام المتاحة فى أوكرانيا، وأن «بعض» هذه الدول لم توافق على «بعض» بنود البيان الختامي.
المهم، أن الإطار العام الذى انعقد فيه مؤتمر السلام وانفض، لم تكن له علاقة بالسلام.. كان إطارا تفاوضيا بالأسلحة النووية بين الغرب وروسيا، وهو الإطار أو المناخ نفسه الذى صدر فيه تقرير معهد استكهولم الدولى السويدى للسلام، محذرا من عودة الأسلحة النووية إلى واجهة العلاقات الدولية.
خذ عندك مثلا هذه التحركات العملية من الجانبين:
> روسيا ترسل غواصة نووية ضمن قطع بحرية أخرى إلى كوبا لإجراء تدريبات فى المياه الكوبية التى تبعد عن ساحل ولاية فلوريدا الأمريكية بمقدار تسعين ميلا فقط، وذلك رداً على الإعلان الأمريكى بالسماح لأوكرانيا باستعمال الأسلحة الأمريكية فى ضرب الأراضى الروسية.
> أمريكا ترد بإرسال غواصة هجومية سريعة إلى مياه خليج جوانتانامو.
> حلف الأطلنطى الناتو ـ ينجح فى الحصول على التزام الأعضاء بوضع ثلاثمائة ألف جندى فى حالة تأهب قصوى وإعلان أن هناك مباحثات لنشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضى الحلف فى أوروبا.. أى على أبواب روسيا، وروسيا تعتبر ذلك تصعيدا خطيرا، كما تعلن دول أوروبية معارضتها له.
> أمريكا تختبر صاروخا نوويا يمكنه الوصول إلى موسكو وبكين فى ثلاثين دقيقة لإظهار استعداد قواتها النووية وقدرتها على الردع النووي.
> بوتين يرد بالقيام بأول زيارة لكوريا الشمالية منذ أربعة وعشرين عاماً ويشيد بدعم بيونج يانج الكبير للعملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا ويستعد لرفع مستوى العلاقات إلى شراكة استراتيجية.
هذه بعض الأمثلة..
ولم ينس معهد ستكهولم الدولى للسلام أن يشير فى تقريره إلى حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية فى غزة، وأن يؤكد أن الجهود الدبلوماسية للسيطرة على الأسلحة النووية تعرضت لنكسات كبيرة وسط توتر العلاقات الدولية بسبب الصراعات وبينها الحرب فى غزة، وان إسرائيل تمتلك الآن تسعين رأسا نووية.
وهو محق فى هذه الإشارة، فقد تعالت أصوات اليمين المتطرف فى الحكومة الإسرائيلية منذ بداية الحرب فى غزة، داعية إلى ضرب الفلسطينيين فى القطاع بقنبلة نووية.
وكل هذا يشير إلى أن العالم الذى تقوده أمريكا، يتدحرج مع أى خطأ بسيط فى الحسابات إلى حافة هاوية حرب عالمية، ما لم يتم تفعيل كل آليات السيطرة، وكل مبادئ العدالة وحقوق الشعوب وديمقراطية النظام العالمي.