> يعيش العالم اليوم فى أصعب اختبارات الزمن وأيام التاريخ. لن تفلت القوى العالمية أو الإقليمية.. أو حتى مختلف دول العالم من هذا الاختبار العظيم والرهيب فى القرن الحادى والعشرين. قد يكون هناك من تأخذهم أوهام القوة والقدرة والثروة والتقدم إلى آفاق بعيدة.. تتجاوز كل الأبعاد.. وكل الخطوط الحمراء.. وحتى كل الحدود. لكن الحقيقة تفرض نفسها على الجميع فى النهاية.. والأمر الواقع يفرض قوانينه الصارمة بقوة.. بما يؤكد أن لأية قوة فى العالم حدوداً.. لا يمكن تجاوزها.. كما تعلمت أمريكا بمرارة فى فيتنام وفى العراق وفى أفغانستان، وقد تبدو الصورة بشكل أوضح فى العام القادم «الجديد» 2025.
> ويبدو حتى الآن أن العقل الصهيونى الإسرائيلى قد أصيب بلوثة جديدة من أعراض غرور القوة.. بعد السقوط السريع لنظام بشار الأسد فجأة فى دمشق. وتؤكد إسرائيل حالياً أنها أصبحت القوة الأولى التى لا تقهر فى الشرق الأوسط.. بفضل الدعم الأمريكى الدائم. واستبدت الأحلام الزائفة والأوهام الكبرى برئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو.. بعد جرائم الحرب الإسرائيلية فى غزة وفى لبنان والضفة الغربية.. وبعد الصراع العسكرى مع إيران.
> ويتصور صهاينة تل أبيب حالياً أن الفرصة قد حانت كى تقوم إسرائيل بفرض «النظام الإقليمى الإسرائيلى فى الشرق الأوسط».. وذلك بمساعدة أمريكا.. تحت قيادة الرئيس الأمريكى القادم.. دونالد ترامب.
موازين القوى
> ما يحدث أمامنا هى محاولة انقلاب كبرى فى موازين القوى الإقليمية والعالمية.
دعونا نعترف بأن شياطين «أهل الشر».. وشياطين الأجهزة السرية العالمية لا تعترف بالهزيمة مطلقاً.
من الواضح أن الامبراطورية العالمية فى شمال الأطلنطى قد قامت بضربة كبرى «تحت الحزام» فى المنطقة الرخوة بالشرق الأوسط.. منطقة الصراعات المفتوحة والحروب الدموية.
> وهناك حقائق جيوسياسية ننساها أحياناً.. وهى أن منطقة الشرق الأوسط.. وبالتحديد منطقة شرقى وجنوب البحر المتوسط.. هى «الفناء الخلفي» لأوروبا وحلف الناتو.. بكل ما ينطوى عليه ذلك من أبعاد ونتائج.. وتمتد هذه المنطقة من تركيا وسوريا ولبنان شرقاً.. حتى شواطئ الجزائر والمغرب غرباً.. ومن أجل هذا أقيمت دولة إسرائيل فى فلسطين.. لأهداف تتعلق بأمن القوى العالمية فى أوروبا وأمريكا.. وليس لأية ادعاءات صهيونية أو دينية يهودية على الإطلاق.
ومن الخطأ الفادح أن يتصور أحد أن أعداء إسرائيل.. هم الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة والقدس والضفة الغربية.. أو الدول العربية فى سوريا ولبنان والعراق.. أو حتى إيران.. ويؤكد الواقع الإقليمى القائم حالياً أن أعداء إسرائيل هم كل بلدان الشرق الأوسط.
ولابد أن ندرك دائماً أن العالم العربى من المشرق إلى المغرب يقع فى مركز العالم بين قارات «جزيرة العالم الكبري» فى آسيا وأوروبا وأفريقيا.. ووضعت امبراطورية بريطانيا العظمى قاعدة ذهبية للسيطرة والهيمنة العالمية تؤكد أن من ينفرد بالسيطرة على «الجزيرة العالمية الكبري».. ينفرد بالسيطرة على العالم. وحين تقع منطقة الشرق الأوسط والعالم العربى فى نقطة مركزية من هذه «الجزيرة».. فإنه يصبح فى مركز الصراعات والحروب الكبرى التى لا تتوقف ولا تنتهي!! وهذا يعنى أن المخاطر والتحديات الكبرى فى هذا العالم تفوق الخيال.. لكن إسرائيل أخطر من أن يتصور أحد.
الحرب بوسائل أخري
.. وتحاول دول العالم الكبرى دائماً أن تنفى عن نفسها تهمة التخطيط لأية مؤامرات. لكن واشنطن تحدد لنفسها استراتيجية جديدة للأمن القومى الأمريكى كل أربع سنوات مع تنصيب كل رئيس أمريكى جديد. وهذه الاستراتيجية تتحول إلى خطط سياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية وصناعية.. خصوصاً فى مجالات صناعة الأسلحة الحديثة وأسلحة الذكاء الاصطناعى المذهلة.
وهناك من يطلقون على خطط القوى العظمى «مؤامرات».. وهناك من يقولون إن «المؤامرة نائمة».. لعن الله من أيقظها.
.. وعلى أية حال.. فإن «المؤامرات».. هى الحرب بوسائل أخري. والمؤامرات.. مثل الحرب.. قد تتوقف أحياناً.. لكنها لا تنتهى مطلقاً.
ويؤكد زيجنيو بريجنسكى وجود عداء حقيقى فى واشنطن لقيام الدولة الوطنية فى أى مكان من العالم.. خصوصاً فى العالم العربي.
يكشف بريجنسكى الحقيقة فى هذه الكراهية الأمريكية للدولة الوطنية بما يؤكد السبب فى أن المؤامرات مازالت قائمة فى كواليس الأجهزة السرية العالمية.. وبالذات مؤامرات تغيير نظم الحكم العربية من الداخل التى بدأت مع انقلابات الربيع العربى فى أوائل ١١٠٢.
.. وسقوط بشار الأسد.. وسقوط نظام الحكم فى سوريا يؤكد أن المؤامرة مازالت قائمة.. وتنتظر فقط فرصة أفضل.. وقد حدثت بسرعة مذهلة.
ويقولون حالياً فى تل أبيب إن سقوط نظام بشار الأسد المفاجئ فى دمشق لا يعنى نهاية الصراع على سوريا.. لأن ما حدث فى الواقع يؤدى تلقائياً إلى مرحلة جديدة من الصراع على سوريا.. ويتزامن ذلك مع ما يطلقون عليه عصر الامبريالية الجديدة فى القرن الحادى والعشرين. استعمار من نوع جديد.
ويقولون إن سقوط الأسد.. يعتبر جزءاً من عودة الامبريالية الجديدة.. ليس فى الشرق الأوسط فقط.. ولكن فى العالم.. ويقال حالياً فى بروكسل وواشنطن إن الامبريالية قد عادت من جديد بقوة.. وأنها تضرب بقوة.. وأن سقوط النظام السورى يؤكد أن الامبريالية تسجل عودة قوية من جديد فى هذا العصر.
ويؤكد دعاة الامبريالية الجديدة أن ما يقال حول النظام العالمى الجديد متعدد القوى موضع شك هائل.. ما لم تظهر قوة اقتصادية وعسكرية عالمية تعادل قوة الولايات المتحدة الأمريكية.
.. نعم.. ربما لن يكون هناك نظام عالمى متعدد القوي.. لكن سوف تكون هناك هيمنة لقوى إقليمية.. وهيمنة أوسع للقوى العالمية.
فيتحرك العالم الياً فى اتجاه الامبريالية الجديدة.. وربما عصر صعود الامبراطوريات القديمة بصورة جديدة فى القرن الحادى والعشرين. وقالت حاولت روسيا ذلك فى المحيط الإقليمى الواسع للاتحاد السوفيتى السابق فى آسيا.. وتعتبر الحرب الروسية على أوكرانيا جزءاً من هذه الاستراتيجية. كما أن سعى الصين لغزو وضم تايوان.. جزءاً من حلم عودة امبراطورية الصين.. بعد ألفى عام أو أكثر.
سيادة الدولار
.. وفى واشنطن.. سوف تواصل أمريكا دورها الامبراطورى من خلال سيطرة وسيادة الدولار الأمريكى على الاقتصاد العالمي.. ومن خلال الجيوش الأمريكية القوية.. التى لا يوجد لها نظير فى العالم. وهناك من يقولون فى واشنطن «من أشد منا قوة؟!».
ويرفع الرئيس الأمريكى القادم ترامب شعار «أمريكا أولاً».. لكن ذلك لا يعادل انفراد أمريكا وحدها بالهيمنة العالمية. ولن تتخلى «الامبراطورية الأمريكية العالمية» عن ٠٥٧ قاعدة عسكرية تحتلها فى أوروبا وحول العالم.
وقد تكون أمريكا امبراطورية مترددة أو تتردد فى الاعتراف بكونها امبراطورية كبري.. لكنها فى الواقع امبراطورية. ولن يتحرك العالم فى اتجاه «الأسرة السعيدة» للقوى متعددة الأطراف. العالم يتحرك فى اتجاه الصراع المتجدد بين القوى والامبراطوريات العالمية فى القرن الحادى والعشرين. ومازالت دول الاتحاد الأوروبى فى القارة البيضاء.. تبحث لنفسها عن دور جديد فى هذا العالم.. المخيف.
فرصة نادرة
> ويقول الإسرائيلى هارلى ليبمان إن سقوط نظام بشار الأسد فى دمشق.. يوفر لإسرائيل فرصة استراتيجية نادرة.. فى لحظة تاريخية نادرة.. يتم فيها إعادة رسم وتشكيل خريطة الشرق الأوسط.. لأعوام طويلة قادمة.. من الواضح أن إسرائيل تحلم بالتوسع فى أراضى سوريا.. ولإقامة إسرائيل الكبري.
هكذا نكتشف أن إسرائيل ترسم لنفسها صورة واضحة بأنها هى القوة العسكرية والتكنولوجية الأولى والوحيدة فى الشرق الأوسط. وعادت لوثة الغرور العسكرى الإسرائيلى بقوة إلى تل أبيب.. وأن إسرائيل قد أصبحت من جديد قوة عسكرية لا تقهر.
ويتصور رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو أن إسرائيل ومعها أمريكا.. بقيادة دونالد ترامب يمكن أن تنفرد برسم الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط.. أو كما يقولون فى تل أبيب.. لابد من إقامة النظام الإسرائيلى الجديد فى الشرق الأوسط.
الصراع على سوريا
وتؤكد إسرائيل فى هذه الأيام أن سقوط بشار الأسد فى دمشق يعنى نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة من الصراع على سوريا. ما حدث من تغيير فى دمشق ليس مجرد تغيير فى نظام الحكم فى إحدى دول الشرق الأوسط.. لأن ما حدث يعنى أن الصراع الإقليمى والدولى على سوريا قد بدأ من جديد.
وقد دخلت أمريكا على الخط مؤخراً.. وتقوم باتصالات دبلوماسية ومخباراتية مع قادة هيئة تحرير الشام ومن معها من جماعات استولت على السلطة فى دمشق.. لتحديد مستقبل العلاقات بين سوريا وأمريكا فى العصر الجديد.
والصراع على سوريا يخلق فرصاً هائلة لأمريكا ولإسرائيل وللغرب فى أوروبا.. وقد دخلت بريطانيا على الخط وهى الحليف التاريخى لجماعة الإخوان الإرهابية.
وقد أكد أحمد الشرع الشهير باسم أبومحمد الجولانى مؤخراً أن الثورة قد انتهت فى سوريا بسقوط بشار الأسد.. وأنه لن يتم استخدام سوريا كمنصة لتقويض استقرار الدول العربية ودول الخليج. وقال فى دمشق إن سوريا تعبت من الحروب وأن النظام الجديد يريد أن تكون سورياً جزءاً من العالم العربي.. وأضاف أن الهدف هو إعادة بناء وإعمار سوريا.. على نموذج دول الخليج وخصوصاً نموذج ورؤية المملكة السعودية.. وفى هذا الإطار سوف تتم عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة فى سوريا. وأوضح أن المشروع الإيرانى قد عاد للوراء أربعين عاماً.. مما يجعل الخليج أكثر أمناً واستقراراً وسوريا تريد أن تخدم مصالحها العربية.
واعترف بأنه رغم وجود انقسامات بين المواطنين فى سوريا لكنه يأمل فى إقامة دولة لكل السوريين وأنه بحاجة لمستشارين قانونيين لتشكيل النظام الجديد للدولة فى سوريا.
.. لكن تصريحات أحمد الشرع لا تنفى أن مرحلة جديدة من الصراع على سوريا قد بدأت من جديد.. وهناك قوى إقليمية ودولية سوف تسعى لاستغلال ما حدث من تغيير فى سوريا لخدمة مصالحها.. خصوصاً إسرائيل ودول الغرب الأمريكى الأوروبي.
قلب العروبة النابض
يقول روبرت كابلان مفكر استراتيجى أمريكى إنه لا يكفى أن يتم إسقاط بشار الأسد فى دمشق.. ما لم يتم التخطيط لنظام سياسى جديد أفضل فى سوريا.. يقوم على أسس العدالة والوحدة.. وحدة الشعب السورى ووحدة أراضى الدولة السورية.
.. ربما تحرر السوريون من بشار الأسد.. لكن الحرية الحقيقية هى إيجاد النظام البديل الذى يرضى عنه كل السوريين. والبديل لكل ذلك هو مستنقع الفوضى وأن يتعرض الشعب السورى بمختلف طوائفه لنوع من الاستعباد الجديد فى ظل الفوضي.
إن النظام السورى السابق كان يتحدث دائماً عن سوريا باعتبارها «قلب العروبة النابض».. من أجل الحفاظ على وحدة كل فصائل الشعب السوري.. الدينية والعرقية.. الآن سوريا إلى أين؟! من الواضح أن الدعوة للديمقراطية.. سابقة لأوانها.
.. ويتساءلون فى بروكسل بوضوح.. هل ينتهى الأمر بصدام بين إسرائيل وتركيا.. فى سوريا.. أو صراع تركى إسرائيلى على سوريا.
يقول جابريل إيليفنتريل.. إن إسرائيل تدعى أنها الأقوى حالياً فى الشرق الأوسط.. أقوى حتى من تركيا.
وقد تعمدت إسرائيل القيام بتدمير كل الأسلحة الاستراتيجية للجيش السورى بعد ساعات من سقوط الأسد وهروبه لموسكو. وتم تدمير سلاح الطيران السورى وقواعده الجوية وتدمير الصواريخ الباليستية وتدمير سلاح البحرية السورى بالكامل.
ويقولون فى تل أبيب إن سوريا لم تعد تمثل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل لمرحلة قادمة طويلة فى المستقبل المنظور.