فى غزوات وحروب عديدة، دعت السنة النبوية صراحة إلى حماية المدنيين وغير المقاتلين أثناء المعارك، وحرمت استهداف النساء والأطفال والشيوخ وأصحاب الصوامع وكل من يقوم بمساعدة العدو أثناء الحرب دون أن يشترك فعليا فى القتال، وكان النبى محمد صلى الله عليه وسلم، أثناء الحروب والغزوات يقول: «اغزوا باسم الله فى سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا «، كما أوصى صلوات الله عليه وسلم ، أصحابه بمعاملة أسرى المشركين معاملة حسنة، وقال لهم: «استوصوا بالأسرى خيرا»، وبسبب تلك التوصية النبوية الكريمة نزل قوله تعالى فى سورة الانسان: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا».. صدق الله العظيم.
هذه المقدمة لابد منها ونحن نتابع ما يحدث الآن فى قطاع غزة والذى بات كل سكانه المدنيين فى حكم الأسرى والمحتجزين من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلى الذى لم يترك وسيلة للقتل والدمار والإبادة الجماعية إلا مارسها على أولئك السكان، مخلفا فى ذلك أكثر من مائة ألف شهيد وجريح على مدى خمسة شهور، فى انتهاكات واضحة وصارخة للقانون الدولى الإنسانى والذى بذلت الشعوب والحكومات جهودا كبيرة لأجل ترسيخه ومنع الحروب والصراعات، أو توفير الحماية للمدنيين والأسرى فى حال تعقد الأمور واشتعال القتال، غير أن ذلك لم يحدث ولم يتحقق، بل زادت وتنوعت الحروب كما أثبت العدوان الإسرائيلى على غزة وما تضمنه من استخدام كافة الأساليب الوحشية ضد المدنيين المحاصرين أنه لا مكان للقانون الدولى الإنسانى ولا فائدة من منظمات حقوق الإنسان، الأهم: هو ما أثبته العدوان بأن الإرهاب صناعة صهيونية، وأن ما عانيناه من إنتشار التنظيمات الإرهابية فى العقود الماضية، ليس إلا بضاعة» إسرائيلية- غربية» تم إيذاء المنطقة العربية بسمومها.
وحقيقة فإن وحشية العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، ربما يأتى الوقت لتدرس فى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية كونها الأسوأ فى مجال التعذيب وتنقل تفاصيلها «على الهواء» وباعتبارمنفذوها من أفراد جيش الاحتلال الإسرائيلى فقدوا إنسايتهم وأن جرائمهم لا تقل بشاعة عن «نازية هتلر» فى القرن الماضى حسب وصف الرئيس البرازيلى لولا دى سيلفا، هذه البشاعة لا تقتصر على القصف المستمر والهجمات البربرية المتتالية وما أسفر عنها من سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، ولكن فى الحصار والتضييق على سكان غزة وحرمانهم من « الطعام والماء والدواء» وكل سبل الحياة، وهو ما رصدته وسائل إعلام أمريكية، وقالت: إن سكان غزة يواجهون مجاعة كارثية، بسبب نقص المواد الضرورية للعيش. والتى جعلت البعض يلجأ إلى علف الحيوانات لإطعام أسرهم، بينما ذكرت صحف غربية: «أن أعلاف الحيوانات التى كانت تستخدم بديلاً للطحين فى شمال غزة نفدت، ولا يوجد أى شيء يمكن أكله فى غزة وشمالها».
الكارثة هنا أن المجاعة فى غزة والتى نتابع مشاهدها المؤلمة على الشاشات يوميا، باتت إسرائيل تستخدمها ليس لتعذيب سكان القطاع فقط، ولكن لتعذيب البشرية كلها، فليس أصعب مما نراه من أطفال «رضع» يتعرضون للموت نتيجة سوء التغذية، وليس أفظع من أن نرى سيدات ورجالا وشيوخا يتضورون جوعا نتيجة انعدام الطعام، أو أن يدفن العشرات فى مكان واحد بين السكان الأحياء. ووفقا لتقارير دولية: فإنه لا يوجد تقدير لعدد الفلسطينيين الذين ماتوا فى غزة بسبب الجوع، فمع نزوح الغالبية العظمى من السكان وتدمير النظام الطبي، ظلت العديد من الوفيات دون إحصاء، أو لم يتم تحديد أسبابها، وعادة ما تسجل المستشفيات القليلة المتبقية فقط الوفيات الناجمة عن الهجمات الإسرائيلية، وذكرت التقاريرأيضا، أن حجم وسرعة هذه الأزمة لم يسبق لهما مثيل فى العصر الحديث وانها إذا استمرت بهذا الغبن وهذا الغياب الدولي، فإن ضحايا المجاعة فى غزة سيكونون بمئات الآلاف.
المثير فى هذا السياق هو ردة فعل الطيار بالجيش الأمريكى على المجاعة وبشاعة جرائم إسرائيل فى قطاع غزة- فى تصرف ربما يحدث لأول مرة فى الولايات المتحدة متجاوزا فى ذلك كل ما شاهدناه من مظاهرات رافضة للعدوان الإسرائيلى على غزة- فقد أضرم الطيار الأمريكى النار فى نفسه أمام مقر السفارة الإسرائيلية، وقال إنه يرفض أن يكون جزءا من حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، كما يرفض إنحياز النخبة الحاكمة فى واشنطن إلى تل أبيب.. لقد مات العسكرى الأمريكى بعدما التهمته النيران ولسان حاله يردد» باكره بايدن، وباكره نتنياهو، وباكره إسرائيل».
فى الأخير.. فإنه مهما تزايدت أعداد الشهداء والجرحى فى قطاع غزه وغيره من الأراضى المحتلة نتيجة جرائم حكومة الحرب فى تل أبيب، فيكفى أنهم بدمائهم أعادوا الحياة للقضية الفلسطينية، وبتضحياتهم أعادوا كلمة «مقاومة» إلى مكانها الصحيح.. وليست مبالغة فى أن ماحدث ويحدث فى غزة سيكون مجرد بداية جديدة لنضال طويل.