رمضان، شهر ليس ككل الشهور، كريم بما يمن الله به علينا فيه من واسع الرزق والعطاء، وأجواء روحانية عطرة، يضبط العادات والسلوكيات، ويستقبله الجميع بالفرحة والسعادة، لما فيه من خيرى الدنيا والآخرة، أعلى تعبير عن الإرادة، عبادة توسع الصدر وتزيل أسباب الهم وتعلو بصاحبها إلى أعلى المنازل، فالصيام حالة من السمو الروحى والتحدى لتنقية النّفس، يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ومن أكبر العون على التقوى.
ويتميز الصيام بأنه عبادة خالصة لله، ولم يُعبد به غيره، ويخلو من الرياء، وفيه الصبر والإحسان والتقوى وحسن الخلق وصلة الأرحام، ومجاهدة النفس، وإذا كان الصوم امتناعا عن الحلال مثل الطعام والشراب فإن الامتناع عن الحرام أولى فى رمضان وغيره.
وشهر رمضان موسم للطاعات، تتنزل فيه الرحمات، ومن جميل ما قرأت عنه ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقى، فى «أسواق الذهب»: «الصوم حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة وهذا الحكمة باطنها الرحمة، يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر ويعلم الصبر ويسن خلاله البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع وحرم المترف أسباب المنع، عرف الحرمان كيف يقع وكيف ألمه إذا لذع».
وقال طه حسين: «فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب وأصغت الآذان لاستماع الأذان وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقا تنقلب وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملأت من فاكهة وأترعت من شراب، يشق السمع دوى المدفع، فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء، وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم».
ومما قرأت أيضا بمناسبة الشهر الكريم، أن فؤاد الأول تاسع حكام مصر وأول من حمل لقب ملك من أسرة محمد على، طالع صورة فى إحدى الصحف لوزير المعارف حينها مراد سيد باشا فى ميدان السباق بمصر الجديدة وهو يدخن «سيجارة» فى نهار رمضان، فغضب وأمر بإقالته فورا.
وعموما، ما أن يقترب شهر رمضان، حتى تقوم الدنيا ولا تقعد، انشغالا بتوفير السلع وإعلان حالة الطوارئ، وتتحول المحال والأسواق والشوارع والشوادر إلى خلايا نحل، وتنتشر حمى الشراء، يشترى الناس ما يحتاجون وما لا يحتاجون، ويحملون أنفسهم ما لا يطيقون، بينما قال تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
لا أدرى ما هذا السباق المحموم الذى يشعل الأسعار دون سبب، سلوكياتنا تتكرر كل عام بصورة طبق الأصل، دون أن نتعلم الدرس، ففى حين أن الجهاز الهضمى يعمل طوال العام دون راحة، إلا قليلا فى شهر الصوم، أصبحنا نضيف إليه أعباء أكثر ثقلا وضررا للصحة العامة.
فعلى العكس من حكمة الصيام، حولنا رمضان من شهر صيام إلى شهر طعام واستهلاك، وقلبنا الأمور بالمبالغة فى الموائد، فكأننا صائمون طوال العام وسنفطر فقط فى هذا الشهر، ونحن نعرف حرمة الإسراف والتبذير، ونعرف أن المعدة بيت الداء، وأن الصيام- بجانب فوائده الدينية- يفيد جميع أعضاء الجسد، ورغم ذلك نتجاهل هذا كله، ولا نهتم إلا بالبطون، ونعانى من التخمة.
ولى مع شهر رمضان علاقة خاصة، لأننى جئت إلى الدنيا فى فجر أول أيامه منذ سنوات طويلة، وكان من المفترض أن يسمونى «رمضان»، لكن الشموع هى التى كانت -بإذن الله- تحدد الأسماء، بالطريقة التقليدية التى كانت شائعة حينئذ، وليس من عادتى أن أتذكر يوم ميلادى المدون فى الشهادة الرسمية، إلا ربما بعده بأيام أو إذا ذكرنى به أحد، ولا أذكر أننى احتفلت به ولا مرة، لكن فى الغالب أتذكر ميلادى الهجرى لأنه فى ذكرى عظيمة وشهر كريم.
أيام قليلة ويهل علينا الشهر الكريم، كل عام وأنتم بخير.