لا يكتمل الحج سوى بالسعى بين جبلى الصفا والمروة، فعندهما تبدأ بعد طواف البيت، وإليهما تنتهى بعد الطواف أيضًا وهنا تمام الحج. والحال ذاته إذا قدمت إلى البيت بنية العمرة، هى مسافة تبدو للوهلة الأولى قصيرة ومتقاربة للغاية بين نقطتَى الارتقاء على جبلى الصفا والمروة، لكن ما إن شرعت فى سعيك بينهما إلا وتذوقت عناء هذه السيدة المصرية التى جعل الله تعالى من سعيها بين الجبلين ركنًا ثابتًا فى الحج وكذلك فى العمرة، وتبدأ فى التمعن والتحرى عما كان فى نفس هذه السيدة المصرية هنا، لكن «هنا» المكان لم يكن على حاله عندما بدأت سيدتنا السعي؛ فلم يكن مغطي، مكيفا، ممهدا، والأهم أنه الآن آمن، تلك الظروف والأحوال كلها لم تكن حينها عندما شرعت السيدة زهرة اللوتس فى السعي، بل كان الحصى الملتهب، والحجر المدبب المسنون، والحر القيظ، والمفازة الجدباء، والوحدة الموحشة، والأصعب كان فى بكاء طفل رضيع فرغت جعبتها من قطرات ماء تسكت حرارة بكائه، ذلك كله والبطلة المصرية لم تشك برهة فى إيمانها بما قالته لزوجها: «إن كان هذا أمر الله، فاذهب، فإنَّا لن يضيعنا الله» ما كل هذا الإيمان الصلد؟ وما كل تلك المساندة من زوجة لزوجها فى طاعة الله؟!، أين تعلمت هذه السيدة طاعة الزوج وإعانته على المصائب والشدائد؟! لِمَ لا وهى سليلة الحسب والنسب وإحدى المصريات المعهود عنهن الإيمان بالله والثقة فى أمره، وكذلك فى حسن رعاية البيت بما يحتويه من زوجها وابنها، وكذلك من بعد زهرة اللوتس فعلت زوجة فرعون التى قالت: «رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة»، وأيضًا أم موسى التى أوحى إليها ربها بأن اقذفيه فى اليم، فكانت لوحى ربها مؤمنة موقنة إذن فليس من الغريب –سابقًا ولاحقًا– أن تكون الزوجة المصرية عمادًا لبيتها، فهكذا تربت زهرة اللوتس، وهذا ما يعنيه اسمها «هاجر» فى الهيروغليفية، ورغم قلة –بل ندرة– ما كتب عن سيدتنا هاجر– فإن ما توافر من معلومات عنها أنها كانت أميرة أختا للملك سنوسرت، وعندما ضعفت الدولة وجيشها وتفرقت وحدتها «!» ووقعت تحت الاحتلال؛ حاول المحتل الاقتراب منها، فشلَّ الله أطرافه فابتعد عنها، وذاع صيت عفتها بين الخلائق هذا نسبها وحسبها وخلقها ودينها.
أما موضع نشأتها فقيل إنها من جنوب مصر، وكان الأكثر رواجًا فى الأثر أنها من منطقة ما فى الفرما تقترب أو تبعد عنها قليلاً، ربما تكون «لحفن» أو هى منطقة ما بين سيناء وبورسعيد «حاليًا».
ورغم أن سيدتنا هاجر المصرية –زوج أبى الأنبياء وأم إسماعيل أبى العرب– كانت تصعد قمة الصفا وتهبط لاهثة ساعية إلى نجاة لوليدها إلى قمة جبل المروة، وكلاهما جبلان فى صحراء تنعدم فيها الحياة إلا من الإيمان بالله، فكان الصفا وهو ما بدأ به الله تعالى أولاً فى قرآنه الكريم وسنه لنبدأ منه السعي.
الصفا فى اللغة تعنى الحجر الأملس، وهو ما قاله القرطبي، وقال إن آدم وقف عليه ووقفت حواء على المروة فسمى نسبة للمرأة. والمروة فى اللغة –أيضًا– تعنى الحجارة البيضاء البراقة الصلبة، أو الصخرة القوية المتعرجة.
أما الأصمعى فقال: سُمى المروة لبياض حجره.
ووصف محمد الطاهر بن عاشور فى تفسيره «تفسير التحرير والتنوير» أن «.. الصفا والمروة اسم لجبلين صغيرين متقابلين؛ فأما الصفا فرأس نهاية جبل أبى قبيس، وأما المروة فرأس منتهى جبل قيقعان».
ووسط هذه الروحانيات التى تطغى على كل الفوارق إلا من آية تبقى دلالتها خالدة، وهى أن الله قد أمر وشرع ضمن أركان الحج –وهو الركن الخامس من أركان الإسلام– أن يتبع المؤمنون سيدتنا المصرية هاجر.
الاستثناء الوحيد هنا هو أنت؛ الوحيد هنا الذى تمتلك جنسيتك وقوميتك وأصلك المصري.. وتفتخر بمصريتك وسط هذه الأجناس والأعراق والقوميات التى ذابت وتلاشت كلها، وبعرفان لأمنا السيدة زهرة اللوتس.. تتذكر أنك أنهيت السبعة أشواط التى اجتهدَت فيهن سيدتنا هاجر فى البحث عن مفازة من المفازة، حتى تسمع صوتًا، وبإيمان راسخ تقول له: «أسمع صوتك فأغثنى إن كان عندك خير»، وأمر المولى عز وجل جبريل فضرب الأرض بعقبه أو بجناحه فخرج الماء من الأرض.
وهنا، ما زال فى الحج عن سيدتنا زهرة اللوتس «هاجر» المصرية حديث ثانٍ.