كانت المسافة التى تفصل بينهما واسعة ممتدة تشبه الصحراء الإفريقية، رغم أنهما يعيشان فى قرية صغيرة، يقطعها الطفل الصغير على قدميه من اولها إلى آخرها فى دقائق معدودة.
رجل كبير فوق الخمسين، وشاب صغير دون الخامسة والعشرين، بدا كل منهما وكأنه يعيش على طرف نقيض من الآخر.
رجل اكثر اهل القرية انطواء على نفسه، لايتحدث مع أحد الا مضطرا، يذهب إلى الجامع، اذا خرج من بيته او دكانه، يجلس خلف الباب كانه لايريد ان يرى احدا او يراه احد.
اما الشاب فولد وحيد لأكبر تجار القرية، نشأ اجتماعياً مشاركاً لأهل قريته فى كل المناسبات، يتحدث مع الكبار والصغار، والرجال والنساء ولكن فى حدود الادب والاحترام.
عمل يوسف يوسف فى الزراعة اولا، وتركها للعمل فى معمل للالبان، واستقر اخيراً فى تجارة الحبوب والاعلاف. رزقه الله بثلاث بنات وولد واحد، احبهم جميعا وسعى على رزقهم سعياً مشكوراً، ومضى معهم فى طريق العلم حتى الجامعة.
تمنى الرجل ان يعيش ولده ليكون عونا له فى حياته وسندا لأمه وشقيقاته بعد وفاته.
تقدم الشاب فى دراسته وانتقل من مدرسة إلى مدرسة حتى التحق بالجامعة وتخرج فيها، وحصل على وظيفة مرموقة فى المدينة.
عاش سعيدا مع اسرته الصغيرة، محبوبا من اهل قريته وتمنى ابوه ان يتزوج ابنه فى حياته ويعيش معه فى داره الكبيرة يملؤها بالاحفاد بنات واولاداً.
لا يذكر اى منهما- الرجل والشاب- انهما جلسا معا او تحدثا سويا، لكنهما تبادلا التحية، او المصافحة فى مرات قليلة خلال المناسبات المختلفة التى يجتمع فيها اهل القرية كالافراح والمآتم والاعياد.
استمرت هذه العلاقة المحدودة لسنوات طويلة على هذا الحال، بلا امل يرجى فى ان تتقدم او تتجاوز هذه الحدود.
عند صلاة الفجر نعى مؤذن الجامع الكبير عبر مكبر الصوت والد الشاب وتاجر القرية الكبير. ظن الجميع انها بداية النهاية فى حياة الشاب بعد رحيل ابيه الذى وفر له كل سبل الراحة وارتبط معه بصداقة وأخوة كانت مضرب الامثال، اضافة إلى علاقة الدم والقربى صحبة جميلة تفيض بالتفاهم والمودة والاقدام.
حضر الرجل مأتم والد الشاب وقدم له واجب العزاء وشد على يديه وكان له وقفة معه فى محنته وساندته فى شدته، وشجعه على مواصلة معركة الحياة بصبر وشجاعة.
بعد ثلاثة ايام فقط توفى الابن الوحيد ليوسف بعد مرض قصير مفاجئ، حزن الرجل عليه حزناً شديداً، وبكى بكاء طويلا، حيت احترق قلبه على فلذة كبده وقرة فؤاده ولكنه ظل صامدا صامتا مصمما على استكمال رسالته فى الحياة.
ذهب الشاب اليه يؤدى واجب العزاء ويشارك فى جنازة الصبى الصغير، ويدعو له بالرحمة ولوالده بالصبر على محنته ومصيبته.
زار هشام عبداللطيف قبر ابيه فى البداية كل يوم وحافظ على الزيارة فى مواعيد منتظمة على مدار العام.
كما تحولت حياة الابن المسكين إلى رحلات يومية إلى قبر وحيده الراحل.
تعددت لقاءات الرجل والشاب على الطريق المؤدى إلى المقابر، تبادلا التحية، واقتربا قليلا، لتتحول إلى مصافحة باليد، واقتربا اكثر من خلال الاحاديث القصيرة العابرة.
ومع مرور الايام تقدمت مساحات التقارب والاتصال على حساب مساحات البعد والانفصال، جلسا معا عند المقابر، تحدث كل منهما عما يدور فى عقله ويجيش فى صدره.
تعددت هذه الجلسات وتحولت إلى زيارات متبادلة فى المنازل، وصحبة دائمة فى كثير من المناسبات وصداقة متينة أكدتها الايام والاعوام.