يؤذن الشيخ محمد رفعت فكأنما هو الأذان الأعظم.. وكأنما يوم الحشر العظيم الذى يقوم عليه الناس لرب العالمين.. وكأنما تهتز لتهليله وتكبيره السماء، وتخشع له الأرض، وتهتز الخلائق، وتختلج المشاعر، ولكن شيخنا الذى يوقر لفظ الجلالة يعطى للقرار النبرة الأعلى، فيقول الله أكبر لتخرج كلمة الله بتهليلة هائلة، وكأننا نسمع تهليلة الأذان تجلجل فى السماء، وكأن جميع الخلائق والكائنات تهب واقفة إجلالا واحتراما لعظمة هذا الأذان وهيبته.
هو منحة الأقدار حين تهادن وتجود، فهو خير من رتل القرآن وخير من تلاه فى زماننا وإلى أن يشاء الله كان هذا رأى الشيخ المراغى شيخ الأزهر الأسبق فى الشيخ محمد رفعت قيثارة السماء الذى ولد بحى المغربلين بالقاهرة فى مايو عام 1882 وتوفى أيضا فى مايو عام 1950 بعد 68 عاما من مولده، وافتتح إرسال الإذاعة المصرية بتلاوته بعض آيات الذكر الحكيم بصوته الرخيم فى مايو 1934.
فى طفولته كان أجمل أطفال الحى، وأجمل ما فيه كانت عيناه التى فتحهما فى منزل صغير بدرب الأغواث بشارع محمد على، وكان والده محمود بك – الذى أعطاه المحيطون به لقب البكوية كنوع من الاحترام والتبجيل لمأمور قسم الخليفة – يحبه بشغف حتى إنه كان لا يتركه يمشى على قدميه بل يحمله دوما على كتفه.
وذات مرة عاد الرجل بابنه للبيت والولد على صرخة واحدة للصبح، وداخ به عند الأطباء، وأجرى له الدكتور روكشى جراحة لم يصادفها النجاح وضاع النظر من عيون الصغير ليبكى أبوه طويلا عندما يسمع الابن الكفيف وهو ينكفئ فى أحضانه سائلا: امتى حيطلع النهار؟!
ويجلس الشيخ محمد رفعت إلى ميكرفون الإذاعة ليرتل بصوته الملائكى فتخفق لصوته قلوب الملايين العطشى لما جاء من أعظم كتاب، الذين يدركون أنه ليس يقرأ فحسب قراءة تسمع وحفظ بل قراءة شرح وتفسير وتنوير وتشخيص.. قراءة فذة كأنك لا تسمع بل تشاهد، ولا تشاهد بل تعايش.. ذروة توقظ العقل وتشيع فى الوجدان وكأنك تعيش لحظة نزول الوحى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. يرتل القرآن ترتيلا، والترتيل هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف.. يقرأ القرآن بحزن وشجن كما قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن نزل بحزن فاقرؤوه بحزن.. سيد التصوير والدراما للمشاهد القرآنية فى سورة البقرة والرعد والمائدة والأنعام والكهف ومريم وطه والقمر وغيرها، فهو مثلا فى سورة البقرة يصور الحوار وكأنه يسمعه بدقة شديدة فى أمر ذبح البقرة التى أمر الله على لسان سيدنا موسى بذبحها: «وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة» حتى نهاية الآيات، وكيف يتغير الحوار ليظهر كثرة جدل بنى إسرائيل، وفى سورة المائدة يغضب غضبة شديدة لله حين يقرأ بعنف وحدة «وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا» وكيف يضغط على حروف كلمة «غلت» وكلمة «لعنوا».. وفى سورة الكهف يصور حال أصحابه أبدع تصوير بحنجرته الذهبية وكأنه يراهم.. ولم تكن لتكتمل أدواته بدون دراسة الموسيقى والإلمام بقواعدها وطبع صوته بسحرها، فأكب على تعلم قواعدها من خلال العزف على العود وحفظ الكثير من إبداعات كبار ملحنى عصره، من أمثال الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب وعبده الحامولى ومحمد عثمان.