إنه شيخنا الإمام والقاضى الذى فقدنا برحيله شجاعته فى الحق التى سبقت توليه منصبه الرفيع ، وقد كان له نصيب فى اسمه فهو العالم الإمام القاضى صاحب الفتوى عرف بالفهم الصحيح للعقيدة وللعبادات والأحكام والشرائع، عرف بالسماحة والعلم والمعرفة والدراية والعمق والإيمان بنصوص الدين وروحه.. انتقد الغل والمغالاة فى الدين واجتهد بفهم العالم الواعى مستندًا إلى النص القاطع المانع ومراعاة شأن الناس والحياة فى شئون دنياهم.. كان إمامًا حافظًا هذا الصرح الإسلامى العريق.. اشتهر بأنه رجل المواقف دفاعًا عن دينه وقضايا أمته فى شتى بقاع الأرض دافع عن قضية القدس وفى حرب البوسنة والهرسك كان للأزهر بيانه المدافع عن أبناء البوسنة ويكفى حشد فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق ابن قرية »بطرة« بالدقهلية لمساندة أبناء فلسطين فى الأرض المحتلة ضد الكيان الصهيونى.. كما حشد للبشرية جمعاء دور الأزهر الريادى.. وهو الإمام ربما الوحيد الذى اختار من يصلى عليه عندما أوصى بأن يصلى عليه الشيخ محمد متولى الشعراوى وهو ما حدث بالفعل ولدوره فى الأزهر الشريف جمعته علاقة وطيدة بالشيخ متولى الشعراوى لدرجة أن الشعراوى كان يقبل يده حتى لو أمام الكاميرا على مرأى من الجميع رغم فارق السن بينهما، فالشعراوى أكبر منه بـ ٦ سنوات تقريبًا.. ويوم وفاته بكى الشعراوى على قبر الإمام ونعاه بقوله »تعلمنا منه ألا نعصرن الدين بل ندين العصر فعصرنة الدين تعنى أنه غير كامل حاشا لله، وكان قد رفض دعاوى الغرب كالإجهاض وغيرها فى مؤتمرات الإسكان.. كما أصدر بيانًا مهمًا للرئيس كلينتون بشأن نقل السفارة الأمريكية للقدس.
ويحسب للإمام الأكبر الشيخ الراحل جاد الحق الذى رحل عن عالمنا فى 16 مارس عام 1996 قبل نحو 29 عامًا معارضته «تسييس الفتاوى» وأفاده عمله فى القضاء والمحاكم الشرعية على الاستنباط الصحيح للأحكام.. كما استفاد كثيرًا من عمله عام 1953 بعد ثورة يوليو بأقل من عام فى منصب أمين للفتوى بدار الإفتاء المصرية فى سلسلة وظائف قضائية مهمة كقاض شرعى ومستشار بمحاكم الاستئناف حتى عام 1976.. ووصوله إلى منصب المفتى عام 1978 للديار المصرية.. وجاهد طويلاً لاختيار الفتاوى الرصينة الصادرة عن دار الإفتاء كمرجعية فقهية ونشرها فى مجلدات فاقت العشرين.. وعندما تولى وزارة الأوقاف عام 82 فى يناير من هذا العام حتى عين شيخًا للأزهر ليبدأ معه عصر جديد كمؤسسة دينية وعلمية راسخة وعمل على إعلاء دور الأزهر كمنارة للهدى والحق.
وتقشفه وتواضعه كانا واضحين فى شقته البسيطة بحـى المنيــل والتــى رفــض تركهـا وهو المولود فى 5 ابريل 1917 وكبر فى السن وتقدم فى العمر وكان يصعد على قدميه إلى شقته فى الدور الخامس.. فكان إماماً زاهدًا كما كان لا يحصل على أموال تأتيه من كتبه وكان قانعًا براتبه.. ولم لا يكون كذلك فهو العالم الذى كان يعرض النصوص من القرآن والسنة ويقدم الاجتهادات وشروح السلف ويعرج على الحاضر ويقف على ضروراته التى تبيح محظوراته فرضتها حقب وعصور وربما مناسبات.
ندرس اليوم مواقفه وخاصة نداءه وهو الذى تولى مناصبه وسط أحداث التفجيرات والعمليات الإرهابية واتهام الأزهر بالتقصير فرفع شعاره المهم «مكنوا علماء الأزهر.. من منابر المساجد» وكان يرى أنه بالوعى لن يجرؤ أى مدع على الإسلام أن يعلو المنبر.. وقال علينا أن نحترم دعاة الإسلام الحقيقيين الحاملين للرسالة والمزودين بالعلم من الحاصلين على العالمية.. هو الذى دافع عن «هيبة الإمام» أمام الناس.
الميلاد والنشأة
مسيرة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق بدأت مع ولادته فى قرية بطرة بمركز طلخا.. وكعادة القرى ألحقه والده فى هذا الزمن المبكر من عشرينيات القرن الماضى بالكتاب وفيه حفظ القرآن الكريم، وبعد ذلك التحق بالمسجد الأحمدى بطنطا عام 1930 ومنه إلى كلية الشريعة التى تخرج فيها 1943 والتحق بالقضاء الشرعى وحصل على العالمية مع الاجازة فى القضاء الشرعى عام 1945.
وعين بعد ذلك عام 1946 وفى شهر يناير بالمحاكم الشرعية وتدرج فى المناصب حتى وصل إلى منصب أمين الفتوى بدار لارفتاء عام 1952 ثم عين قاضيًا عام 1954 بالمحاكم وفى عام 1971 وصل إلى منصب رئيس محكمة ومفتشًا قضائيًا بوزارة العدل وظل فى هذا المنصب حتى تعيينه مفتيًا للجمهورية عام 1978.
جاد الحق مفتيًا ووزيرا
فى عــام 1978.. وفــى صيــف هذا العام وتحديدًا 26 أغسطس صدر قرار اختياره مفتيًا للديار المصرية خلفًا للشيخ محمد خاطر الذى وصل سن التقاعد وقد سانده الاختيار لهذا المنصب أنه تربى على كرسى القضاء فوصف بالفقية المتمكن والقاضى المتبحر الذى يعى الحق ولا يخشى فى الله لومة لائم بدليل خلال هذه الفترة الدقيقة من نهاية حكم الرئيس الراحل أنور السادات اقتحم مساحات كثيرة كان الاقتراب منها أشبه بمن يلعب بالنار أو يدخل عش الدبابير وحرص فيها على الالتزام بالمنهج الإسلامى الصحيح.. ودعمها بأبحاثه الفقهية وآراؤه العلمية فى مواقف معلنة وخلال فترته كمفتى يحسب له جمع الفتاوى من سجلات دار الإفتاد ونشرها فى مجلدات بلغت العشرين وتبلغ نحو 1328 فتوى خلال فترته فى توليه مفتيًا للديار وقبل أن يعين وزيرًا للأوقاف فى يناير 1982.. وخلال المنصب كرس كل وقته للمنصب وتم تنظيم الفتاوى حتى تكون متاحة للمواطنين والمترددين على دار الإفتاء.. وخلال هذه الفترة وضع تقريره الشامل على كتاب «الفريضة الغائبة»، وأكد أنه يشبه من يقرأ قول «ويل للمصلين» ويصمت..
فى يناير 1982 وبعد 4 سنوات قضاها فى دار الإفتاء تم اختياره وزيرًا للأوقاف فى مصر وظل بالمنصب فترة قصيرة ربما هى أقصر فترة لوزير الأوقاف فى مصر حيث تم اختياره فى 17 مارس 1982 شيخًا للأزهر.
شيخًا للأزهر
تم اختياره شيخًا لجامعة الأزهر فى 17 مارس 1982 ليكون الشيخ رقم 42 ويعد من رواد العصر الذهبى فى هذه الفترة للأزهر الشريف فى مرحلة شديدة الحساسية بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات فى 6 أكتوبر 1981 أى بعد الاغتيال بنحو ستة أشهر تقريبًا وأدار الأزهر باقتدار مستفيدًا من أعماله السابقة وخبرته وتخرجه من كلية الشريعة بجامعة الأزهر وتجربة دراسية دسمة من قريته فى طلخا مرورًا بالمسجد الأحمدى فى طلخا ومواصلة مسيرته فى التعليم الأزهرى فى القاهرة عبر المعهد الدينى بالدراسة آخر محطة فى تعليمه ما قبل الجامعى قبل الالتحاق بكلية الشريعة.. وله مواقف عدة خلال توليه مشيخة الأزهر أكدت أنه امام مقاتل خاصة بشأن قضايا الشذوذ والاجهاض وزيارة القدس غير المحررة.. وعارض بشدة الثقافات الدخيلة على المجتمعات الإسلامية خاصة تلك التى تتسبب فى التفكك الأسرى ورفضه لوثيقة بكين فى مؤتمر المرأة عام 1995.. وانتقد الغرب الذى ربط الارهاب بالإسلام.. واعتبر ذلك ذريعة الغرب للهجوم على الإسلام وتعاليمه.
وفى فترة توليه مشيخة الأزهر توسع فى إنشاء المعاهد الأزهرية وبلغت فى عهده خمس آلاف معهد فى مراحل التعليم المختلفة.. كما توسع فى افتتاح فروع جديدة تابعة لجامعة الأزهر فى المحافظات والمدن فى الصعيد والدلتا.
كما أسس فروعًا للفتوى بلغت 25 فرعًا فى ربوع الوطن وأصدر قرارًا بإنشاء 1500 مكتب لتحفيظ القرآن الكريم بالمساجد وتعيين محفظين من خريجى معهد القراءات ووضع أسس ابتعاث الدعاة للخارج مسجلة باللغة الإنجليزية والفرنسية والسواحلية والألمانية ليتمكنوا من أداء الرسالة.
الوفاة
أعلن يوم 14 مارس 1996 عن وفاة الإمام الأكبر وكان خبرًا حزينًا فى مصر والعالم الإسلامى حيث كان الإمام «79 عامًا» قد وصل مكتبه فى نفس اليوم وعاد إلى المنزل متأثرا بوعكة صحية ومات فى منزله فى المنيل.. وكان قد تعرض لبعض الوعكات الصحية قبل الوفاة بخمسة أشهر حيث أجرى عملية جراحية دقيقة بسويسرا ومنها سافر ألمانيا للعلاج يرافقه د. رأفت بدوى أستاذ جراحة العظام بالأزهر ومحمد حنفى أخصائى العلاج الطبيعى.. وعاد بعدها لعمله ومزاولته بشكل طبيعى بعد فترة نقاهة وكان قد دخل مستشفى مصر للطيران فى فترات سابقة وتماثل للشفاء وبوفاته فقد أزهرنا الشريف شيخه رقم «42» والحقيقة وفاة الشيخ جاد الحق جاد الحق كانت صدمة للعالم الإسلامى كله وليس مصر وحدها لما تركه من أثر كبير فى خدمة الإسلام والمسلمين من خلال المواقع التى تولاها قاضيًا ومفتيًا ووزيرًا وإمامًا للأزهر الشريف.
الجنازة ومشاركة حاشدة
وقد شيعت جنازة الإمام الأكبر من الجامع الأزهر إلى مسقط رأسه قرية بطرة دقهلية وتجلت مظاهر الوفاء بمجرد أن تم الصلاة عليه وعبر طريق صلاح سالم فى موكب طويل اتجه إلى قريته يضم أكثر من مائة سيارة عبر الطريق الزراعى إلى المنصورة ربما لم تحدث من قبل على هذا الطريق واخترق الموكب الطرق بصعوبة وكانت الحركة عند بنها وقبلها طوخ من الصعوبة بمكان لدرجة أن المرور أوقف الشوارع الموازية.. وفى مسجد الناصر فى القرية الذى صلى فيه الإمام الراحل احتشد أكثر من 50 ألفًا، وسط الدموع الباكية على شيخها فضيلة الإمام الأكبر والغريب أن السيارة قطعت 500 متر فقط بالجثمان وسط الحشد فى أكثر من 70 دقيقة حتى وصلت إلى المسجد.. واتشحت قريته بالسواد وخرج الجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً فى الطرقات يبكون الامام.
ورى الثرى فى مقبرة بالمجمع الإسلامى الذى يحمل اسمه والتى شيدت على عجل فى يوم واحد وبناها نجله من الطوب الأحمر فى مجمع يتسع لألف مصل تبرع فيه بنصف فدان كان كل ممتلكاته فى القرية وباقى التكلفة كانت من أحد بيوت الزكاة العربية «الكويت» والشيخ جاد الحق لم ينس قريته فقد أسس 3 مساجد بها والثالث هو المجمع الذى دفن بجواره واللافت أن الشوارع عندما امتلأت اعتلى أهل القرية أسطح المنازل لوداع فضيلة الإمام، وبعد الدفنة اكتظ صوان العزاء بأكثر من 5 آلاف معزٍ من جميع أنحاء الجمهورية.
بعد وفاته حرص أبناؤه على نشر تراثه وعندما تواصلت الأسرة مع إحدى دور النشر رفض نجله مقابلا نتيجة للنشر وأن يتم تحويل نصيبهم إلى مجمع الإمام جاد الحق.. وبالفعل قمنا بذلك.. وهم كانوا حريصين على نشر أعماله وقدموا مجموعة أعماله الفتاوى والقضايا المعاصرة بالإضافة إلى العديد من كتب الإمام..
مؤلفاته
مختارات من الفتاوى والبحوث
احكام الشريعة الإسلامية فى مسائل طبية عن الأمراض النسائية
النبى فى القرآن الكريم
الفقه الإسلامى مرونته وتطوره
مجموعة بحوث وفتاوى فى أربعة مجلدات.