في الاحتفال بعيد الشرطة تتجسد أمامنا دائما رسالة الأمن ومعنى الدولة التي في سبيلها تقدم التضحيات، وفي احتفال هذا العام كانت الرسالة عن التحديات التي تواجه الدولة المصرية، الاحتفال الذي تم الإعداد له بحرفية عالية اختار زوايا مختلفة عن كل عام، ولم يغرق فى تفاصيل الذكرى التاريخية التي لا يمكن تجاهلها أو نسيانها، فهي محفورة في الذاكرة المصرية، وإنما حول المناسبة إلى فرصة تاريخية للتذكير بالمخاطر والتهديدات التي تحيط بمصر وضرورة الوعى بها، وكذلك ما يبذله جهاز الشرطة في سبيل دوره الوطنى دفاعا عن الأمن.
لقد تعددت رسائل الاحتفال لكن كان الشعار العام الذي عبر عنه الأوبريت الفنى أن مصر خط أحمر وهذا بيت القصيد، فالقضية ليست تحديات فقط ولا أرقاما نترجمها إلى واقع يقول بوضوح إن معدل الجريمة تراجع وان الاستقرار هو عنوان مصر الآن وإنما القضية غاية يجب أن نحققها في سبيل هذا البلد، والغاية التي عمل من أجلها رجال الشرطة طوال السنوات الماضية، وعبر عنها الحفل بروعة أن عقيدتهم التي يعملون بها ويخلصون لها أن مصر كانت وستظل خطًا أحمر، وأنهم لن يتوانوا في تقديم كل التضحيات في سبيل الحفاظ على هذا الخط والتصدى لمن يحاول الاقتراب منه أو المساس به.
هذه العقيدة الراسخة لا توجد إلا لدى من يمتلك الفهم العميق لمفهوم الدولة واستقرارها وأهمية الحفاظ عليها، وأن الدولة أكبر كثيرًا من المطالب الشخصية للفرد أو الأسرة، بل تتجاوز حياته نفسها.
وهذا المفهوم هو الموجود بالفعل لدى أبناء المؤسسات الوطنية مثل الجيش والشرطة الذين يتبعون هذه الفكرة ويؤمنون بها لدرجة اليقين، ولذلك فالمستقر وجدانيا لديهم أن التضحيات لازمة، بل فرض عين في سبيل بقاء الدولة واستمرارها ولذلك يضحون حتى بأرواحهم دون أن يسألوا عن المقابل لأن المقابل عندهم هو واستقرار الوطن. وهذا ما نحتاج إليه مجتمعيا ليس التضحية بالروح وإنما ببعض الأولويات التي قد تتعارض مع فكرة الدولة نفسها، بل وقد يكون تحقيقها أحيانا على حساب بقاء أو بناء الدولة، بالتأكيد هذا المفهوم لن يتواجد ويثبت بين يوم وليلة، ولا يتحقق بالأمر وإنما بالتنشئة الصحيحة للأجيال وخلق ثقافة مجتمع واع بفكرة الدولة وواجبات والتزامات المجتمع والفرد تجاه الدولة فلن تنجح دولة تسود فيها «الأنوية» أو تسيطر عليها المصالح الشخصية أو تتحكم فيها الأهواء، وانما لابد أن تكون مصلحة المجتمع أولوية وترسيخ قواعد الدولة وثباتها أساسا للعمل.
وهذا لا يعنى عدم البحث عن الحقوق والتوجه نحو ما يحقق المصالح الخاصة، ولكن يجب أن يكون هذا بما لا يتعارض مع سلامة واستقرار الوطن على أرضية هذا المفهوم المعنى وأهمية الدولة واستقرارها لا يمكن أن نمرر كلمة الرئيس السيسي واحتفالية الشرطة دون أن نحاول قراءة بعض الأفكار والرسائل المهمة التي قد تمر على الكثيرين دون أن يدركوا أهميتها.
واحدة من الرسائل المهمة التي تضمنها الحفل هي فكرة الأمان نفسها التي تتطلب وعيًا كبيرًا، فليس معنى أن المواطن يعيش في أمان أن الأمور مستقرة وأنه لا توجد مخاطر، وانه لا يحتاج إلى رجال أمن لأن هذا الأمان في الواقع سببه الحقيقى بعد حماية الله أن هناك من يسهر عليه ويكافح من أجل تحقيقه، وغيابه يعنى غياب الأمان، فالداخلية تحقق الأمن للمواطن ودون أن يشعر، وتدفع ثمنا غاليا لهذا من أرواح رجالها من أبناء الشعب، ونتيجة ذلك الجهد تسجل الجريمة الجنائية تراجعا مستمرا وفى العام الأخير تراجعت بنسبة تزيد على 14.2% وهو رقم كبير، وعندما يضاف إليه أن إجمالى ما تم ضبطه فى نفس العام من مواد مخدرة يتجاوز 16 مليار جنيه بجانب أكثر من 28 مليار جنيه قيمة مخدرات كان ستتم إعادة تهريبها إلى الخارج فمعنى هذا أن الداخلية أنقذت المصريين من كميات ضخمة من الجرائم ومن المخدرات كانت في طريقها لتدميرهم.
وعندما تقوم الداخلية بضبط العديد من العناصر قبل تشكيل بؤر إرهابية جديدة لتمارس جرائم الإرهاب ضد المجتمع لإعادة الفوضى فهذا أيضا حماية للاستقرار والأمن الذى كان سيصبح مهددا بشدة إذا لم يتم إحباط هذه المحاولات الإرهابية. وهذا يؤكد أن الأمن الذي نعيشه له ثمن لابد أن نعرفه وندرك قيمته، وندعم المؤسسات التى تدفعه، بل ونبذل ما علينا من جهد لضمان استمرار هذا الأمن والاستقرار الذى أصبح غاليا فى ظل الظروف الإقليمية والعالمية الحالية.
الرسالة الثانية: هى المسئولية، فكل مواطن في موقعه يتحمل مسئولية لابد أن يؤديها، ومثلما يلتزم رجال الجيش والشرطة بمسئولياتهم ويحرصون على أدائها بأعلى درجات الكفاءة بل ويتنافسون في سبيل ذلك، فالمفترض أن كل مواطن في موقعه لا يقل شعورًا بالمسئولية عن هؤلاء بل عليه أن يعمل بنفس الروح التى فيها تفان وإصرار وتحد، وهذا ما نحتاجه بشدة الآن.
الرسالة الثالثة: أكدها الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته وجسدها رجال الشرطة والجيش واقعا على الأرض وهي أن مصر دولة كبيرة لا يستطيع أحد أن يهددها أو يمسها، وهذا التأكيد لا يمكن إعلانه إلا نتيجة يقين بالله أولا، ثم بقدرات الدولة وقوتها النابعة من شعب متماسك وواع، ومؤسسات دولة صلبة وقوية، وقيادة مدركة لحجم المخاطر والتعامل معها، وهذا اليقين الموجود لدى الرئيس ومعه كل رجال الجيش والشرطة لابد أن يتواجد لدى كل مصرى اليقين والثقة في الدولة وقدراتها، وثقلها وأنها لم ولن تكون دولة مستباحة، بل دولة قادرة أن تحدد خطوطها الحمراء وقادرة على فرضها وحمايتها، وأهمية هذا اليقين أنه يعنى التحول من السلبية إلى المشاركة في البناء والقدرة على الإنجاز، لأن اليقين بقدرات الدولة يعنى الثقة فى إنها تستحق الأفضل.
الرسالة الرابعة: هي كيف نواجه أزماتنا، فالقضية ليست انتقادا وغضبا وتنظيرا.. أزمات الدول لا تدار بهذا الأسلوب الذى لا يفيد ولا يضيف شيئا سوى خلق صراعات ومضاعفة الأزمة نفسها، وإنما الحل يبدأ من معرفة الواقع وحقيقة المشكلة وأسبابها، قبل اللوم والاتهام بالفشل، أزمة الدولار مثلا ليست وليدة اليوم وإنما هي متراكمة لأنها على مدى عقود لم يتم التعامل مع جذورها، بل كان الهدف دائما الحلول المسكنة، التى لا تنهى أزمة بل ترحلها.
الأمر ببساطة كما شرحه الرئيس هو عرض وطلب وطالما ظلت مواردنا من الدولار أقل من احتياجاتنا وإنفاقنا، فسوف تظل الأزمة بل وتتزايد، والعكس كلما تراجعت الفجوة وحدث التوازن بين المطلوب والوارد من الدولار تراجع سعر الدولار وانخفضت الأسعار، لكن هذه الكلمات البسيطة حتى تتحقق تحتاج إلى جهد ضخم فى توفير الموارد الدولارية، والطريق الأفضل بجانب تنمية مواردنا السياحية وتحويلات المصريين بالخارج أن نزيد الاستثمار الصناعي،
وأن نصنع أكثر لنوفر احتياجاتنا قدر الإمكان ونصدر، وهذا الأمر يحتاج إلى تحرك في دعم الصناعة وهو ما يتم حاليا بجهد كبير ورؤية استراتيجية يقودها الفريق كامل الوزير تعتمد على تشغيل المصانع المتعثرة والتي تتجاوز الـ 12 ألف مصنع لكل منها أسباب تعثر مختلفة، وكذلك في مسار مواز يتمثل في دعم الاستثمارات الصناعية الجديدة مصرية وعربية وأجنبية بالتأكيد لن يحدث هذا في يوم وليلة وإنما يحتاج لسنوات، ورغم ذلك وكما يعد الفريق كامل الوزير فالمستهدف أن نتمكن خلال نهاية عام 2025 أن نحقق النسبة الأكبر في تقليل فجوة الاستيراد من خلال الصناعة، وهذا وعد عندما يتحقق سيكون نقلة نوعية غير مسبوقة وستتغير كثير من المعادلات الاقتصادية في مصر، والأمر يحتاج كما قال الرئيس إلى صبر وإرادة وتحد وإصرار كما يحتاج إلى دعم المواطن نفسه في خفض استهلاكه الترفيهي ومساندة كل منتج مصرى جيد، والابتعاد عن السلع المستوردة لا نقول مقاطعتها، وإنما عندما يتوافر البديل المحلى فله الأولوية، وكلما استطعنا تقليل الاستيراد السلع لا فائدة منها دعمنا عملتنا واقتصادنا.
الرسالة الخامسة: إن الإصلاح مهم ولا غنى عنه، وهو يحدث بالفعل، لكن ليست كل القطاعات يمكن أن ينتج الإصلاح ثماره فيها بشكل سريع وإنما تحتاج إلى وقت وتعب وصبر، خاصة إذا كنا نريد إصلاحا حقيقيا يدوم والوعى بهذه الحقيقة يساعد في النجاح، لأن البناء صعب ويتطلب وقتا كبيرا، وهذا ما يجب أن يدركه كل المصريين.
الرسالة السادسة: هي اليقظة الدائمة، لأن التحديات صعبة والاستهداف لا يتوقف خاصة استهداف العقول المصرية من خلال أساليب مختلفة هدفها ضرب الاستقرار وصناعة الغضب والفتن الداخلية فأهل الشر لا يريدون لمصر أن تستقر أو تتقدم خطوة واحدة، ولا يسعدهم أن تحقق انجازا بل يسارعون في محاولة تشويهه أو إفساده، وطريقهم لهذا هو صناعة الفتن بالشائعات والأكاذيب، ولهذا يؤكد الرئيس دائما أن وحدتنا هي درعنا الحامية لهذا الوطن ضد نزعات التطرف والأفكار الهدامة وصناعة الصراعات القاتلة.
الرسالة السابعة: هي أن الوعى مطلوب على كافة المستويات خاصة في ظل التطور الكبير فى الوسائل الإلكترونية التي لم تعد فقط للاستخدام الإيجابي وإنما تستخدم الآن بشكل أكبر فى الهدم والتخريب والتحريض وتجنيد الشباب لصالح جماعات وتنظيمات متطرفة والسيطرة على العقول لتوجيهها لصالح مافيا أو عصابات دولية تجارة المخدرات والبشر والسرقات والابتزاز، وكل هذا يأتي عبر الخداع الإلكتروني، والغريب أنه رغم وقوع الآلاف في هذا الشرك لكن ما زال هناك الآلاف غيرهم لم يتعلموا الدرس ويسلمون أنفسهم لنفس العصابات وهو ما ندفع جميعا ثمنه، أفرادا وأسرا ومجتمعا ودولة وعلينا ان ندرك هذا الخطر ونتصدى له يوعى كامل ونتمسك بالثوابت والقيم الوطنية والثقة فى مؤسسات الدولة.
الداخلية قدمت في احتفالها رسالة واضحة لتحذر الشباب من خطر هذه الوسائل والاستسلام لها، وقدمت نماذج عملية الجرائم وقعت بالفعل وكيف تم التعامل معها وضبط مرتكبيها حتى يتعظ الجميع. وعلينا أن نستوعب هذا الأمر حتى لا نقع في الخطر…
الخلاصة أن الدولة ليست مجرد مكان للسكن أو جنسية تسجل في جواز السفر وإنما هي انتماء وشرف وحماية تفرض على الجميع أن يدافع عنها حتى ولو تطلب الأمر تضحية ولنا جميعا في رجال الشرطة والجيش المثل والقدوة.