هجوم الإخوان على النحاس باشا كشف له انتهازيتهم السياسية
خطب الجمعة بالأمم المتحدة فى مرافقته السادات أثناء كامب ديفيد
قليل من أصحاب السيرة الذين شهدت حياتهم جدلا وكذلك مماتهم.. إلا أن الجدل الذى تركوه بعد وفاتهم فاق التوقعات.. وبينما صاحب الجدل غائب عن الرد أو الدفاع عن نفسه تكفل تلامذته ومحبوه بالدفاع عنه يقينا فى إخلاصه.. بينما سعى المتربصون بفكره إلى تعظيم الشبهات قناعة أو كراهية فى محاولة بناء سد يحول بين تلك الجاذبية الفطرية للبسطاء ناحية منهج الراحل.. الشيخ محمد متولى الشعراوى إمام الدعاة الذى غاب عن عالمنا فى مثل ذلك اليوم 17 يونيو عام 1998 عن عمر ناهز 87 عاماً.. ورغم تناول الكثيرين لسيرة الرجل ومسيرته إلا أنهم لم يلتفتوا إلى جوانب مهمة قد تجيب عن الأسئلة الحائرة لدى الكثيرين.
أبرز تلك الأسئلة لماذا تخصص فى علم تفسير القرآن رغم أنه لم يقم بدراسته دراسة متخصصة فى الأزهر الشريف، فقد كان طالبا بكلية اللغة العربية حيث برع منذ بداياته الأولى فى فنون الادب حتى كتب قصائد أشعار تمتاز بالوطنية فى المناسبات المختلفة.. ورغم أن مشايخ الازهر وطلابه قديما كانوا يتعلمون وفق منهجية الشمول العلمى على يد مشايخ الاعمدة التى يجلسون عندهم يختارون من فنونهم ما يتفق وميولهم.. فذاك يدرس العقيدة والثانى التفسير والثالث الفلسفة الإسلامية والرابع التفسير والخامس الفقه.. وعقب الانتهاء من الفترة المحددة من مسئولى الجامع الأزهر يختار الطالب أحد فروع التخصص التى تستهويه.. لكن بعد فترة نشأت المعاهد وكليات الأزهر التى تلقى فيها الشيخ الشعراوى تعليمه، وقد تخصص فى علوم اللغة العربية ولم تذكر المصادر الموثقة أنه درس فى كلية أصول الدين المتخصصة فى أحد أقسامها لتدريس علم التفسير.. وهذا ما تسبب فى حيرة كثير من الباحثين الذين أجابهم الشيخ دون قصد حينما قال متحدثا بفضل الله عليه: إنها نفحات ربانية وصفائية تنزل على قلب المؤمن، فكانت أشبه بالتجليات الروحانية التى تظهر أمام عينه وهو يقرأ كتاب الله ويفسر آياته، مما جعل البعض يصفه بأنه «إمام الدعاة» و«هرم» التجديد الدينى بلا شريك.
(نقطة تحول فى حياة الإمام)
ولِد فى 15 أبريل عام 1911م بقرية دقادوس مركز ميت غمر محافظة الدقهلية، وحفظ القرآن الكريم كاملا فى العاشرة من عمره، وعندما بلغ الــ12 من عمره ألحقه والده بمعهد الزقازيق الابتدائى عام 1922م، ورغم أن اختيار الأب كان يتعارض مع رغبة الشيخ الشعراوى حيث كان يأمل أن يعمل فى الأراضى الزراعية مثل باقى أبناء جيله، لكن والده كان مدفوعا بأمر خارجى لا يعلم له تفسيرا فى الحرص على تعليم ابنه محمد دون باقى أبنائه، وقد حكى الشيخ الشعراوى أنه حاول كثيرا الهرب من التعليم بالزقازيق رغم جودة التعليم الأزهرى وقتها ، واستخدم الشيخ الشعراوى حيلة كشفها والده حينما طلب شراء مجموعة من الكتب التى تعتبر بمثابة مراجع علمية لا تتفق ومستواه الدراسي، وكان يظن الشيخ الشعراوى وقتها أن والده سوف يعجز عن شراء تلك الكتب، أو يتأفف من تكملة ابنه التعليم فيقوم بإخراجه من الدراسة بما يحقق رغبته، لكن والده رغم بساطته أدرك الحيلة التى يمارسها ابنه فقام بشراء تلك الكتب كلها، وأثناء عودته مع ابنه قال له أنا اعلم أن تلك الكتب ليست للدراسة لأنك سوف تدخل العام المقبل الصف الثالث الابتدائي، وحينها كانت تلك النقطة بمثابة تحول فى حياة الشيخ الشعراوى الذى أدرك ضرورة تلبية رغبة والده بالتفوق والتميز العلمي.
(أسرار إلهية)
اختار «الشعراوي» استكمال الدراسة فى تخصص اللغة العربية، لتكون الطريق الذى يسلك به تكملة طريقه الجامعى موقنا أن اللغة العربية اصل العلوم والمعارف، علاوة على أنه كان يتمتع بالتمكُّنٍ فى فنون اللغة العربية وملكاتها، كالنحو، والصرف، والبديع، والشِعْرِ، والخطابة، وطلاقة اللسان، ووضوح البيان، لكن السؤال المهم الذى يكشف أن وراء التميز الذى حققه الشيخ الشعراوى أسرارا إلهية وتراتيب قدرية ، فقد فاق الدارسين فى علوم التفسير، واستطاع أن يتميز بعلوم اللغة فى فك طلاسم بعض العبارات التى تستعصى على افهام البسطاء، ولكنه فى ذات الوقت كان متبحرا فى التاريخ وفى شروح المفسرين، وفى علوم الطبيعة وعلوم الطب، ومبادئ الفقه وأصوله.
(الوجه القبيح للإخوان)
بدأ ممارسة السياسة وانضمامه أولاً لحزب «الوفد» وكان مفتونًا بشخصية سعد زغلول، ويحرص على صحبة أبيه فى زياراته المتكررة لـ»زعيم الأمة» فى مسجد قرية «وصيف»، بل كان زملاؤه من الطلبة الوفديين فى الأزهر، يختارونه وكيلاً للجنة الوفد بالأزهر، ثم انتقل لجماعة الإخوان الارهابية عندما التقى بمؤسس الجماعة حسن البنا فى مدينة القاهرة، لكنه سرعان ما فارق الإخوان فى عام 1938 حينما حضر احتفالاً بذكرى وفاة الزعيم الوطنى سعد زغلول، قائد ثورة 1919، وقام الشعراوى بإلقاء قصيدة امتدح فيها سعد زغلول، كما امتدح أيضاً النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، وعندما علم حسن البنا بتلك الحادثة غضب لأن الشعراوى امتدح النحاس، واجتمع بعدها الشيخ الشعراوى مع عدد من قادة الإخوان، بحضور حسن البنا، وعندما تطرق الحديث إلى الزعماء السياسيين الواجب دعمهم من قبل الإخوان المسلمين، لاحظ الشعراوى أن الحضور يتحاملون على النحاس باشا، ويدعمون صدقى باشا، رغم أن الأخير لم يكن يحظى بشعبية بين الوطنيين، بسبب ميوله للقصر، فاستغرب الشعراوى موقفهم وقال بحسب ما يروى فى الكتاب: إذا كان من ينتسبون إلى الدين يريدون أن يهادنوا أحد السياسيين ولا يتحاملون عليه أو يهاجمونه، فليس هناك سوى النحاس باشا.. لأنه رجل طيب تقى وورع، ويعرف «ربنا» وإننى لا أرى داعيًا لأن نعاديه، وهذه هى الحكمة إلا أن أحد الحاضرين اعترض على ذلك الرأي، بقوله: النحاس باشا هو عدونا الحقيقي، لأنه زعيم الأغلبية ، تفاجأ الشعراوى من هذا الرأى الذى كان جديداً عليه، وعلّق قائلاً: «عرفت وقتها «النوايا»، وأن المسألة ليست مسألة دعوة، وجماعة دينية، وإنما هى سياسية، وأقلية وأغلبية، وطموح للحكم، وفى تلك الليلة من عام 1938 اتخذ الشيخ الشعراوى قراره بالابتعاد عن جماعة الإخوان الارهابية، بعدما رأى لهم وجهاً غير الذى كان يظنهم عليه، وأنهم جماعة سياسة وحُكم ولا علاقة لهم بالدين سوى كونه مطية تحملهم إلى تحقيق مطامعهم . وان اعضاء الجماعة يتصارعون على المكاسب والاطماع السياسية وانهم يبحثون عن المصالح الشخصية وليس الدين وانه اكتشف انتهازيتهم وتستروهم بالدين وتحقيق اهدافهم ولو كان ذلك على حساب الدين نفسه.. فكان هذا كشف مبكر لحقيقة هذه الجماعة الخائنة للدين والدولة.
(جرأة فى وجه الحكام)
ربطت الشعراوى علاقات مختلفة بالرؤساء والزعماء، لكنه لم يخش فى قول الحق «لومة لائم، فقد كانت علاقة الشعراوى وجمال عبد الناصر تميل للاختلاف ، ورغم ذلك قام الرئيس عبدالناصر بتعيين الشيخ الشعراوى مديراً لمكتب شيخ الأزهر الشريف الشيخ حسن مأمون، وحينما علم الشعراوى خبر وفاة عبدالناصر، فاجأ الجميع وألقى خطابًا حزيناً راثياً الزعيم الراحل، فقال: قد مات جمال وليس بعجيب أن يموت، والناس كلهم سيموتون ولكن العجيب وهو ميت يعيش معنا، وقليل من الأحياء يعيشون، وخير الموت ألا يغيب المفقود، وشر الحياة الموت فى مقبرة الوجود، وليس بالأربعين ينتهى الحداد على الثائر المثير، والمُلْهِمِ المُلْهَمِ، والقائد الحكيم، والزعيم بلا زَعْمٍ، ولو على قَدْرِهِ يكون الحداد لتخطى الميعاد الى نهاية الآباد، وبعد مرور أعوام على وفاة عبدالناصر، زار الشعراوى ضريح الراحل عام 1995 ودعا له، معللاً سر زيارته فى رؤياه للراحل فى منامه، قائلا: أتانى عبد الناصر فى المنام، ومعه صبى صغير وفتاة صغيرة، والصبى ممسكاً بمسطرة هندسية كبيرة والبنت تمسك سماعة طبيب، ويقول لى ألم يكن لدى حق أيها الشيخ، فقلت له بلي، أصبت أنت وأخطأت أنا.
(محطات مع السادات)
جمعت الشيخ الشعراوى والرئيس أنور السادات علاقة قوية، خاصة بعدما عينه وزيرًا للأوقاف، لكنها لم تخلُ من الخلافات والمشادات، وقد رافق الرئيس السادات وقت زيارة الولايات المتحدة، التى انتهت بالتوقيع على معاهدة كامب ديفيد، ووقتها صلى الشعراوى أول جمعة أقيمت فى الأمم المتحدة، وألقى فيها خطبة جامعة شاملة دعا فيها المسلمين المغتربين أن يكونوا عنوانًا مشرفًا لدينهم، وأن يكونوا صورة حية لعقيدتهم بسلوكهم.
(الشعراوى ومبارك)
بينما ربطت الشعراوى والرئيس الراحل حسنى مبارك علاقة وطيدة، أبرزتها العديد من المواقف منها عندما نجا مبارك من مخطط اغتياله فى أديس أبابا عام 1995، وكان الشعراوى على تواصل دائم مع الرئيس مبارك، بالاتصال التليفونى من وقت لآخر، وكان الرئيس مبارك يطمئن على صحته عندما يكون مريضًا.
(روضة المساكين)
كان الشيخ الشعراوى يحرص على زيارة مسجد السيدة «نفيسة العلوم» باستمرار، لكن مع الوقت تطور حب الشيخ الراحل للسيدة نفيسة رضى الله عنها، فترجم ذلك بتدشين استراحة بجوار ساحة مسجدها، كانت تشهد جلساته المنفردة والدينية التى كان يعقدها، فضلاً عن استقباله ضيوفه فيها، وبعد تدشينها بفترة أطلق عليها اسم «مبرة الشيخ الشعراوي»، حيث كانت توفر استراحة الشيخ الشعراوى الطعام والشراب لرواد المعلم الإسلامى البارز مجاناً، حيث يأتى الناس حباً فى العالم الراحل والسيدة نفيسة فيقرأون الفاتحة على روحيهما ويجلسون فى المكان، كما أنه كان حريصاً على توفير الملبس والمأكل والمشرب لزوار الاستراحة حتى أنه خصص 3 وجبات يومياً تقدّم للمساكين والفقراء وأصحاب الحاجات .
(ملوك على باب الإمام)
استقبل الملك الراحل الحسن الثانى الشيخ الشعراوي، وكان وقتها وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر الشريف وحينما اشتد المرض على الشعراوى فى مصر، وكان يعانى من مرض الربو، فنصحه البعض أن يستقر مؤقتا بشاطئ الهرهورة، فأقام فى منزل صغير، وفجأة دخل الملك الحسن الثانى عليهم وكان يرتدى جلبابا فعانق الشيخ قبل أن يلومه عن عدم إخباره بمجيئه، ليعرض عليه الانتقال من الشقة البسيطة فى شاطئ الهرهورة والإقامة فى «فيلا» مجهزة، لكن الشيخ اعتذر ، وجلس الحسن الثانى على كرسى فى الصالون وقال للشيخ «أتمنى أن تكمل حديثك»، فاسترسل الشيخ حديثه حول البسملة وقال «كنت أقول يا جلالة الملك، إن سورة الفاتحة اشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء وهي، الله والرب والرحمان، وأبرزتِ السورة، الإلهية والربوبية والرحمة، فإياك نعبد مبنى على الألوهية، وإياك نستعين مبنى على الربوبية، وطلب الهداية مبنى على الرحمة».. وكان الحسن الثانى وفق المعطيات نفسها مشدوها بشرح الشعراوى لسورة الفاتحة.
(قُبلة الخجل)
فى أحد الأيام دعا الشيخ الشعراوي، مجموعة من اللاعبين للطعام وكان من ضمنهم الكابتن محمود الخطيب، ويروى الخطيب هذه الواقعة قائلا: دخلنا فوجدنا مائدة كبيرة وعليها طعام كثير، وبعدما بدأ الجميع تناول الطعام نظروا إلى الشيخ الشعراوى فوجدوا أمامه طبقاً صغيراً به قطعة «جِبْنٍ» وخبز ناشف، ويأخذ الشيخ الشعراوى قطعة جِبْنٍ يضعها على العيش، وكان الخطيب حريصا على عدم مغادرة المائدة حتى ينتهى الشيخ الشعراوي، وبعدما قام الجميع نظر الشيخ الشعراوى للخطيب قائلا: «خَلَصْت يا ابنى ولا لسه؟ فقال له الخطيب: أنا منتظر حضرتك يا فضيلة الإمام وتنتهي، فتبسم الشيخ الشعراوى قائلا له: «دا أنا اللى منتظرك»، ثم قام الشيخ الشعراوى بوضع طعام إضافى ودعا الشباب الذين يجلسون فى الخارج من «سواقين وخفراء» للدخول وأجلسهم على المائدة يتناولون الأكل، وبعدما انتهوا من الأكل أعطاهم الشيخ درسًا فى الدين وأمور الحياة، ثم صلى بهم المغرب، واستأذن منهم وخرج للجلوس فى غرفته، فقال الخطيب لزملائه اتركوا الشيخ فقد أتعبناه، حيث نجلس معه منذ ساعات طويلة، فقام الشيخ للسلام علينا واحدا واحدا وقبل السلام على الخطيب جلس الشيخ الشعراوى على الكرسى من التعب، فقام الشيخ بتقبيل يده معتذرا على عدم قدرته الوقوف للسلام عليه، مما جعل الخطيب يقوم باحتضانه ويُقَبِّلْ رأسه مخافة أن يقوم بتقبيل يد الخطيب كما فعل مع زميله.
(البابا شنودة وإمام الدعاة)
عقب وفاته احتفظ البابا شنودة بصورة إمام الدعاة فى مكتبه، ونعاه بكلمات مؤثَّرة قائلا: «كان صاحبي، وكانت صداقتنا تسعد الملايين من المسلمين والمسيحيين، إنه عَالِمٌ مُتبحِّرٌ فى علمه محبوبٌ موضع ثقة، وقلَّما يجود الزمان بمثله، أنصف المرأة من الإكراه والقهر وأكد على حريتها فى الاعتقاد، وأنكر الأعراف والتقاليد التى تسلبها حقوقها، وقد شارك فى جنازته وعزائه أساقفة وممثلون عن جميع الطوائف المسيحية.