لم يكن هجوم حركة حماس فى السابع من أكتوبر العام الماضي، على قاعدة ناحال عوزالاسرائيلية، الذى قُتل فيه عدد من اليهود وسقط آخرون كرهائن، عملية عسكرية فقط ضد قوات الاحتلال الإسرائيلى التى قامت بعدها بحرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة، بل يمكن اعتبار هذا التاريخ هو بداية تنفيذ مخطط تشكيل خريطة الشرق الأوسط الجديد بتنفيذ صهيونى ورعاية أمريكية.
قبل الخوض فى تفاصيل الطرح المرسوم للمنطقة استناداً لوقائع الأحداث الجارية، يجب النظر إلى طبيعة المآرب التى يسعى إليها الكيان الصهيونى وراء هذا المخطط.
أولاً: تحقيق الأمن الاستراتيجى لليهود، فوفقاً لرؤية الحكومة اليمينية فى إسرائيل، يجب أن يحدث ذلك من خلال إعادة ترسيم الحدود الجغرافية مع الدول التى تخضع للنفوذ الإيراني،بتشكيل مناطق عازلة على الحدود الإسرائيلية تكون لتل أبيب السيطرة عليها، حتى تضمن الأمن.
ثانياً: تصفية القضية الفلسطينية، وهنا ليس المقصود حل الدولتين على حدود 1967 استناداً لقرار مجلس الأمن رقم 242 بل فرض واقع جديد يكرس لعمليات الاستيطان الإسرائيلى المتسارع فى الضفة الغربية، بعد أن تم هدم عددا ضخما من منازل الفلسطينيين، واجبارهم على التهجير من الضفة فى الفترة التى تلت 7 أكتوبر وحتى الآن، الأمر الذى جعل الأمم المتحدة تطلق تحذيراً حول ذلك على لسان أمينها العام، أنطونيو جوتيريش، الذى اتهم تل أبيب بتعمد تغيير التركيبة السكانية للقدس المحتلة، واصفاً ما يحدث بأنه انتهاك للقانون الدولي.
ثالثاً: اندماج إسرائيل مع دول المنطقة وذلك من خلال إقامة شراكات اقتصادية، وتجارية، وسياسية، وأمنية، لتعزيز المصالح، ومواجهة التحديات المشتركة، كالإرهاب والنفوذ الإيراني.
ومع سعى الحكومة الإسرائيلية إلى تغيير شكل الشرق الأوسط، وفق رؤيتها، ركزت الصحف العبرية على ذلك، معتبرة ما حدث من دمار وقتل و تآمر فى غزة ولبنان وسوريا وإيران هو انجاز تاريخى يجب استغلاله.
قالت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» يجب على تل أبيب اغتنام الفرصة بعد النجاح الذى تحقق فى الشرق الأوسط، مضيفة فى تقرير لها إن مخطط رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، نجح فى تحييد حزب الله بعد تدميرمخزون الصواريخ والبنية التحتية التابعة له تحت الأرض، وكذلك استهداف معظم قيادات الحزب الرئيسية – بما فى ذلك الأمين العام حسن نصر الله.
فى خضم المشهد الحالى للأحداث، يمكن القول ان اللبنة الأولى للشرق الأوسط الجديد بدأت تتأسس بمفهوم الأمن الاستراتيجى لليهود، فى ظل الخسائر الكبيرة لمحور المقاومة الإيراني، وبعد قيام إسرائيل بإنشاء مناطق عازلة على حدودها.
ففى لبنان بعد انسحاب حزب الله – الذراع الرئيسية لإيران فى المنطقة – إلى شمال نهر الليطاني، تشكلت منطقة عازلة بمساحة 30 كيلومتراً تقريباً يشرف عليها الجيش اللبنانى وقوات اليونيفيل، بالتعاون مع لجنة مراقبة دولية من الأمريكان والفرنسيين بموجب اتفاق وقف اطلاق النارفى لبنان.
أما فى غزة، فقد أنشأ جيش الاحتلال منطقة عازلة بعد تدمير المبانى فى مخيم جباليا بنسبة 100 ٪، حيث كشفت صور الأقمار صناعية التى بثتها القناة 12 العبرية أن المبانى الواقعة شمال القطاع على بعد 1كم من الحدود الإسرائيلية، قد دمرت تماما من أجل انشاء هذه المنطقة التى أعلن عنها الجيش الإسرائيلى فى بداية الحرب.
فى نفس الوقت، أصبحت كتائب القسام – الجناح العسكرى لحركة حماس – معزولة تماماً عن أى مساعدات عسكرية إيرانية، فضلاً عن خسائرها الميدانية على الأرض. ومع سقوط نظام بشار الأسد فى 8 ديسمبر، انهار جسر الإمداد الرئيسى للأسلحة القادمة من طهران إلى حزب الله عبر الأراضى السورية، لتتوالى الخسائر الإيرانية على أيدى الاحتلال.
فى هذا الجانب، قالت صحيفة «جورازليم بوست»، اختفى موطئ قدم إيران فى المنطقة، فلم تعد سوريا، التى كانت ذات يوم مركزاً استراتيجياً لدعم لحزب الله اللبناني، شريكًا موثوقًا به بعد وصول فصائل هيئة تحرير الشام إلى الحكم، مضيفه أنه بعد عقود طويلة من الاستثمارات فى محاور المقاومة، خسرت طهران نحو 30 مليار دولار فى سوريا، و20 مليار دولار فى لبنان.
واستطردت الصحيفة حول الوضع فى إيران التى وصفته بأنه بات ضعيفاً، فى ظل ما يعانيه من أزمات متجسدة فى الاضطرابات الداخلية الناتجة عن العقوبات الاقتصادية، والضربات التى وجهتها القوات الإسرائيلية على مصانع إنتاج الصواريخ الباليستية، والدفاعات الجوية الإيرانية، مما أدى – بحسب تصور الجريدة العبرية – إلى تقويض قدرة طهران على التعافي، بعد أن أصبح جيشها منهكا ونفوذها الإقليمى متضائلا.
ولتوضيح أهمية سوريا بالنسبة لإيران، كانت دمشق حليفاً استراتيجياً داعماً للثورة الإيرانية منذ حكم حافظ الأسد، كما كانت حلقة الوصل بين محاور المقاومة التى تدعمها طهران عسكرياً. وبعد التخلص من بشار الأسد، خسرت إيران هذا الحلف الاستراتيجى بعد أن سيطرت هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع، الملقب بالجولاني، على مقاليد الحكم فى دمشق، لا سيما أنه من أشد المعارضين للتواجد الإيرانى فى البلاد، وكما صرح لوسائل الإعلام، فهو يرى ان ما حصل فى سوريا «يعد انتصاراً كبيراً» على المشروع الإيراني.
وعلى الرغم من أن وجود الميليشيات التابعة لطهران داخل سوريا لا يقل خطورة عن الانتهاكات الإسرائيلية على أراضيها، اكتفى الجولانى الذى صعد بمساعدة قوى إقليمية، بمطالبة تل أبيب انهاء ضرباتها وانسحابها من الأراضى التى احتلتها مؤخرا، متذرعاً بعدم قدرة بلاده على مجابهة قوات الاحتلال.
وكانت قد استغلت إسرائيل فراغ السلطة فى دمشق بعد هروب الأسد إلى روسيا، ووجهت ضربات قاصمة لأسلحة الجيش الوطنى السورى متوغلة عشرات الكيلومترات داخل البلاد، معلنة إلغاء اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا عام 1974 لتسيطر بعدها على المنطقة العازلة منزوعة السلاح بهضبة الجولان السورية بالإضافة إلى جبل الشيخ، وريف درعا، فى خطوة نددت بها الأمم المتحدة، ودول عربية.
بنظرة سريعة على الاستراتيجية العامة لإيران، نجد أن نظام ولاية الفقيه بعد ثورة 1979 اعتمد على تشكيل محاور للمقاومة فى المنطقة، من أجل مواجهة ما أسموه بالشيطان الأكبر «الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل».
من بين هذه المحاور، الحشد الشعبى فى العراق، والحوثيون فى اليمن، وحزب الله فى لبنان، بالإضافة إلى عدد من الفصائل فى سوريا منها الفاطميون والزينبيون الذين كانوا يحتمون بمظلة الطائفة العلوية التى كانت تحكم البلاد قبل سقوطها.
والحقيقة أدى ظهور داعش فى المنطقة إلى تقوية تواجد إيران ودعم تمددها، بعد أن كانت عاملا حاسما فى القضاء على هذا التنظيم الإرهابى من خلال القتال على الأرض فى العراق وسوريا، مع العلم أن ذلك كان بمباركة الولايات المتحدة لرغبتها فى إقامة توازنات إقليمية.
وفى ظل زخم الأحداث الجارية فى المنطقة، خاصة تطورات الشأن السوري، تحدث الخبراء والمحللون عن الشكل الجديد للشرق الأوسط عام 2025 حيث حذر بول سالم أحد باحثين معهد الشرق الأوسط من مخاطر التصعيد العسكرى من جانب إسرائيل ضد إيران مشيراً إلى أنه من الممكن أن يخرج عن السيطرة، خاصة عندما تقرر طهران إعادة بناء قوة الردع التى فقدتها، من خلال تسريع بناء سلاحها النووي، مما قد يؤدى فى النهاية إلى اندلاع حرب مع إسرائيل والولايات المتحدة اللتان أعلنتا رفضهما لامتلاك إيران أسلحة دمار شامل.
ومن زاوية أخري، لفت كولين بى كلارك فى صحيفة «التايمز» البريطانية إلى أن تنظيم داعش من المؤكد أنه سيغتنم فرصة سقوط نظام الأسد فى إعادة بناء قدراته العسكرية لشن هجمات جديدة فى المنطقة.
واستشهد الكاتب بتصريح سابق لجاك سوليفان، مستشار الأمن القومى فى البيت الأبيض، قال فيه: «إن الخطر الأكبر الذى أراه هو عودة تنظيم الدولة الإسلامية، لأنه يريد الاستفادة من أى فراغ أو عدم استقرار فى سوريا .
أضاف الكاتب إن التنظيم لا يزال يضم نحو 2500 مقاتل بين سوريا والعراق، وهو رقم من المؤكد سيزداد مع تجنيد أعضاء جدد، للاستفادة من الفوضى التى تحيط بسوريا، محذراً فى نفس الوقت من أن العناصر المتشددة المندمجة فى هيئة تحرير الشام، قد تسعى إلى الانقسام مما سيساعد تنظيم الدولة «داعش» على اصطيادها.
كما قالت لينا الخطيب، محللة لشئون الشرق الأوسط فى مركز تشاتام هاوس البريطانى للأبحاث، إن الوضع فى سوريا لن يستقر على المدى القريب حيث يستعد الأكراد «قوات قسد» المدعومين من أمريكا فى شمال شرق سوريا لمعارك محتملة مع فصائل الجولاني، كما أن أعضاء الطائفة العلوية التى ينتمى إليها الأسد يتعرضون لهجمات انتقامية وقتل على أيدى الجماعات المتمردة التى عانت من القمع على يدها على مدى نصف قرن من الديكتاتورية، مما سيشكل نوعاً من الاضطرابات الداخلية، التى لا تحتاج إليها سوريا فى الوقت الحاضر.