حاوره/ جمال فتحي
– الاحتلال “ينهب” التراث ويزور الواقع والتاريخ
– الشعر خزّان الأسئلة؛ من سؤال الوجود إلى سؤال الهوية
–العالم بحاجة إلى دخول “مصحّة شعرية” ليتعافى من التشويه الذي أصابه في الصميم.
إنها “فلسطين” كانت وستظل.. تحرسها الدماء والكلمات ويدافع عنها التاريخ، إنها “فلسطين” إلياذة العرب وسرديتها الكبرى..” فلسطين” أم البطولات وسقف الأمنيات وملحمة الملاحم.. “فلسطين” حكايات و.. حكايات .. “حكاياتٌ تَرويها الأقواسُ/ حروفُ اللغةِ العربيّةِ بين رُقوشِ القدسِ/ وتَرويها الأنهارُ، طيورُ الحَجَلِ البنّيِّ، جداريّاتٌ في كهفٍ بين جبالِ البلّوطِ/ حكاياتٌ يَرويها تمثالُ حبيبيْنِ بكهفٍ في عينِ الصخريِّ/ حكاياتٌ تَسردُها الحاراتُ، إطاراتُ اللهَبِ، الكوفيّاتُ، وأسبلةُ الماءِ، الأحواشُ، الطيّاراتُ الورقيّةُ واليرغولُ وأعشاشُ الحسّونِ على أشجار النارَنج”.. هكذا يقول الشاعر على العامري عن “فلسطين” أو “فلسطينياذا” كما وصفها وسماها عنوانا لديوانه الشعري البديع الفائز مؤخرا بجائزة فلسطين في الآداب مناسبة حوارنا معه، ذلك الديوان الذي دشن مساحة جديدة لفلسطين في القلب والعقل والذاكرة قبض فيه العامري على الشعر والأرض معا.
(المشهد الشعري)
• كيف يرى على العامري الشعر، وكيف يرى المشهد الشعري في الوطن العربي في لحظة تحتفي بالرواية أيما احتفاء؟
-الشعر يوسِّع وجودنا، وبالشعر تتفتّح وردة الحدس لنرى الجَمال الخفيّ في الهامش والمنسيّ والمتروك والمتواري والمهجور والمطويّ في الذات والظّلال والزمن. وفي الوقت نفسه يفتح الشعرُ طريقاً مختلفاً لإدراك الغامض فينا، بصفته فاتحاً رؤيوياً وعرفانياً. والشعر دليلنا إلينا، ومؤشر أرواحنا إلى القيم السامية. كما أنّ الشعر خزّان الأسئلة، من سؤال الوجود إلى سؤال الهوية وسؤال الحداثة، وهو النداء العميق للحرية، وصرخة الجَمال في مواجهة الظّلم المُظلم في كلّ خطوط الطول والعرض، وفي مجابهة محاولات مسخ الإنسان. نخسر كثيراً، لكننا دائماً نتعلم كيف نحبّ، ونتعلم كيف نبتكر الشموس في زمن الظلاميّة الاستعماريّة الجديدة. لذلك يعمل الشعر على تشغيل طاقة الأمل، وإعادة تدوير معنى الوجود، وترميم الأرواح المكسورة، إذ إنّ الكتابة الشعرية اشتغال باللهب، وليست نزوة أبجدية.
تتكاتف كلّ أشكال الإبداع معاً لمضاعفة الحياة وتوسيع الوجود من خلال الحرية الخلّاقة. لكنّ الشعر يبقى محتفظاً بمكانته الأولى في سيرة الإنسان، منذ الخطوط الأولى التي نقشها في الكهوف إلى لحظتنا الراهنة، إذ إنّ الإنسان كائن مرموز، فهو موشوم بالعلامات والإشارات والتعاويذ والطلاسم، مثلما جاء في أحد النصوص السومرية “في ذلك اليوم، نارٌ سوف تلفح ذراعَك، فتعرف عندئذ علامتي”، وكما جاء في كتاب “الاسم العربي الجريح” للكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي “أنْ تعيش جسمك، معناه أنْ تحطّم، كلّ مرة، ومن خلاله انغلاق
العامري: بعض الروائيين العرب يكتبون بـ ” حبر الاستشراق” والتخمة” الروائية قادمة
وقد يتقدم شكل إبداعي في أيّ مرحلة، وربما يأتي تقدم الرواية الآن نتيجة لعوامل عدة، أبرزها التعويض عن فقدان دور الجَدّة الساردة، لذا تتحوّل الرواية إلى “شهرزاد المرحلة”. ومع وجود تجارب إبداعية جديرة بمكافأة القراءة والدراسة، إلّا أن مشهد الكتابة السردية لا يخلو من “الاستشراق الذاتي”، وفق وصف الدكتور وليد سيف في كتابه “الشاهد المشهود”، إذ تشكّلت ظاهرة كتابة “ما تطلبه الأسواق الغربية”، فنجد بعض الروائيين العرب يكتبون بحبر الاستشراق، ويُقدّمون صوراً نمطيّة عن مجتمعاتهم، طمعاً في ترجمة أعمالهم ونشرها في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية، وسعياً وراء أوهام العالمية والجوائز. لكن، مع تواصل حركة العَجَلة السردية بكل التجارب المختلفة، يبدو لي أنّ “التخمة الروائية” ستصيبنا لاحقاً، لندرك مجدداً أن الحياة ناقصة من دون الشعر، وأنّ العالم بحاجة إلى دخول “مصحّة شعرية” ليتعافى من التشويه الذي أصابه في الصميم.
العامري: هناك تجارب شعرية عربية مصابة بداء التشابه وتجارب تستحق التقدير
وهنا أيضاً، لا بدّ من النظر إلى المقروئية العمودية التي لا تزال تُكلّل الشعر، بينما النشر والانتشار الأفقي والترويج للسرد الروائي في هذه المرحلة. ولو نظرنا جيداً، نجد اللغة الشعرية تهاجر إلى كلّ الفنون الإبداعية، من الرواية والقصة والمسرح والسينما والرسم والنحت والموسيقى إلى الرقص الإيمائي. ولا أغالي حين أقول إنّ المقاربات الفلسفية الحديثة لا تخلو من المجاز الشعري في استكشافها للمجاهيل والغوامض.
أما في شأن الشعر العربي، فلا خوف عليه أبداً، فالأمّة ولّادة الشعراء، وفي نسغ اللغة العربية يجري الشعر. كما أنّ الخريطة الشعرية العربية مضيئة بتجارب تستحق التقدير والقراءة والحياة، مع ملاحظة التنوّع والاختلاف والتفاوت الطبيعي بين تجربة وأخرى. لكن، في الوقت نفسه، هناك تجارب مصابة بوباء التشابه، تبدو “منسوخة” أو “ممسوخة” أو “منسوجة” على منوال آخرين.

(تعميد مبكر)
- ما أبرز مرجعياتك في تجربتك الشعرية؟ – مرجعياتي الشعرية متعددة، بدءاً من التهجير القسري لأهلي من قرية زبعة في قضاء بيسان، وبهذا كان الفقدان علامة أولى، مثل نهر الأردنّ الذي يشكّل الجرح الجغرافيّ من جهة، والشاهد المائيّ على المقاومة وهزائم الغزاة، من جهة ثانية، مثلما يشكّل ذاكرة حيّة لسيرة الأجداد. وتعدّ أرضُ الطفولة في قرية القليعات جارة النهر الواقعة قبالة فلسطين تماماً، إحدى مرجعياتي، إذ إنّ طفولتي نبع شعريّ لا ينضب أبداً. في تلك الطفولة البرّيّة التي عشتها استمعت لقصص فلسطينية من مرويّات جدّي وأبي وأمّي، وتعرفت على أسماء قرى وبلدات ومدن وأنهار ونباتات وأشجار وطيور وحيوانات برّيّة في فلسطين. وفي طفولتي، كانت جدّتي ساردة للحكايات الشعبية الخرافيّة، التي عرفت لاحقاً أنها تعود إلى جذور أسطورية، فالحكاية تهاجر شفهيّاً عبر الأمكنة والأزمنة لتغدو خزانة الخيال المفتوحة للأجيال. ولا تزال مشاهد الحرب والملجأ الذي حفره والدي بجانب صخرة كبيرة في محيط بيتنا الطينيّ، حاضرة في ذاكرتي، مع مشاهد الفدائيين بملابسهم المُرقّطة وأسلحة الكلاشنكوف، وكذلك مشاهد العمليات الفدائية غرب نهر الأردن، ووميض الرصاص، ومشاهد دبابات الاحتلال الإسرائيلي التي غنمها الجيش الأردني خلال معركة الكرامة التي تحقق النصر المشترك فيها للفدائيين والجيش. ولا أزال أتذكر رسائل الحب التي كنت أدفنها تحت شجيرة سدر بريّ في الجبل، إلى جانب السباحة في نهر الأردن التي تبدو كما لو أنها “تعميد مبكر” بتلك المياه التي شهدت جانباً من سيرة المسيح الفلسطيني. وبهذا كلّه، تشكّلُ مسارات حياتي وتجاربي والأماكن والاصدقاء والكتب التي قرأتها والحرب والحب والتراث والحكايات ودفتر الطبيعة جزءاً من شبكة مرجعياتي الثقافية والشعريّة..
العامري: المقاومة الثقافية جزء من شجرة المقاومة الكليّة
ولم يقتصر نهب الاحتلال للمكتبات، بل قام باحتلال الأسماء الكنعانية الأولى للقرى والبلدات والمدن، وسرقة المواقع الأثرية الفلسطينية، في الوقت نفسه استمر في ارتكابه مجازر الإبادة الجماعية، وتدمير شواهد تنطق بعروبة الأرض والتاريخ والمعنى الوجودي للشعب الفلسطيني. ويشهد على ذلك “الأرشيف الأسير” الذي سرقه الاحتلال ولا يزال يحتفظ به في صناديق كُتبت عليها عبارة “أملاك متروكة” وضعها في ثلاثة طوابق تحت الأرض في “المكتبة الاحتلالية”، كما وضع جزءاً من الصناديق في مخازن في كلّ من القدس والناصرة ويافا وحيفا.
هذه بعض الشواهد على استهداف الاحتلال لسردية الكلمة الفلسطينية، مقتدياً بالغزاة الأوروبيين الذين ارتكبوا جرائم إبادة جماعية ضد الشعوب الأصلية في القارة الأميركية، وقاموا بتهميش لغاتهم وثقافاتهم وحضاراتهم. ولأن الثقافة دليل واضح على جذور أي شعب، نرى استهداف الاحتلال الصهيوني لكل عناصر الهوية العربية الفلسطينية، ومحاولاته المستمرة لطمس علامات الوجود الفلسطيني. لذلك، تأتي المقاومة الثقافية بصفتها جزءاً من شجرة المقاومة الكليّة. وكما قال المفكر إدوارد سعيد “المقاومة شكل من أشكال الذاكرة في مقابل النسيان”، فإن مجابهة الاحتلال الصهيوني تتطلب تفعيل معجم السردية الفلسطينية بكل مفرداته.

(سردية شعرية)
- هل خططت من البداية لمسار الكتابة الشعرية في كتاب “فلسطينياذا” الذي حفر عميقاً في الزمن وقدّم سردية شعرية تقاوم الفناء، بمعنى هل قصدت ذلك من البداية أم ساقتك التجربة لتفاجئك النتيجة ومن ثم ولد العنوان ليصف الطريق؟ – بذرة كتاب “فلسطينياذا” كانت تكمن في قصيدة كتبتها بعنوان “مجنون التل”، إذ أحسست بأنها نواة لمسار أكبر وأوسع، لذلك صارت البذرة تنمو رويداً رويداً، إلى أن تشكّلت شجرة الكتاب، بعدما اتضحت الخطوط الشعرية في هذه النصّ الشعري الواحد والمتعدد الإيقاعات، والمُعمَّر بمرجعيات تعود إلى الثقافة الكباريّة نسبة لمغارة كبارة في جنوب مدينة حيفا الفلسطينية، والثقافة النطوفية نسبة لوادي النطوف، والحضارة الكنعانية، فضلاً عن المراحل التاريخية اللاحقة التي أفصحت عنها ذاكرة الأرض ونهر الأردن وذاكرة العمل الفدائي وذاكرة الجد والأب والأُمّ، وذاكرة الابن والحفيد، وكذلك ذاكرة النكبة والنكسة والمقاومة والمنفى وذاكرة معركة الكرامة، وغيرها من محمولات الحياة اليومية التي قامت عليها العمارة الشعرية للكتاب. وبالفعل، كما ذكرتً في سؤالك، يشكّل كتاب “فلسطينياذا” سردية شعرية مضادة لمقولة الاحتلال التلفيقية القائمة على الخرافات والتزوير والتحريف والأكاذيب. وكان الأديب والناقد الدكتور إبراهيم السعافين كتب في مقدمة الكتاب “علي العامري في هذا الكتاب الشّعري الذي اختار له عنوانًا ذا صلةٍ وثيقة بالملحمة، يقدّم الملحمة الفلسطينيّة الحديثة في تشبّث أبناء فلسطين بهويّتهم وأرضهم، سواء أكان ذلك على الأرض الفلسطينيّة أم في مواطن الشتّات”.

(حكمة الأشجار)
- هل ترى أن الديوان أحاط شعرياً بفلسطين التي تعرفها أم أن في صدرك المزيد مما تريد أن تقوله، وهل يمكن لنا أن نقرأ قريباً الجزء الثاني من “فلسطينياذا”؟ – فلسطين أكبر من كلّ الكتب، وأكبر من أن تحيط بها كل المؤلفات التي نُشرت عنها في مختلف الحقول. وعلى سبيل المثال، يمكن كتابة الكثير عن تمثال عاشقي عين صخري، الذي يبلغ طوله 10 سنتمترات وميلمترين فقط، ويعود إلى 11 ألف سنة، خلال الحضارة النطوفية التي قدّمت إلى البشرية سنبلة القمح الأولى. ويمكن أيضاً كتابة الكثير من المؤلفات عن الثقافة النطوفية، وهو الاسم الذي أطلقته عالمة الآثار الإنجليزية، دوروثي غارود، عام 1929، عند اكتشافها آثاراُ تعود لهذه الثقافة في مغارة شقبا في وادي النطوف شمال شرقي القدس. وشهدت هذه الحضارة انتقال الإنسان من مرحلة الاعتماد على التنقل والتقاط ثمار الأشجار البرية والعيش في الكهوف، إلى بدء الزراعة والاستقرار في بيوت. وكان مركز هذه الحضارة التي دامت حتى العام 6000 قبل الميلاد، يتمثل في محيط القدس، وقد شملت غور الأردن، وامتدت إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط لتشمل مواقع في سوريا ولبنان والأردن ونهر الفرات في العراق، وحلوان في مصر.
هذه بعض أمثلة على الثراء الثقافي والعمق الحضاري في فلسطين، وكل تفصيل يمكن تناوله في كثير من الكتب، ويمكن توظيف هذه العناصر في مختلف الأشكال الإبداعية. ويتضمن معمار كتابي الشعري “فلسطينياذا” الذي أهديته “إلى جدّي وأبي وأُمّي الذين علّموني حكمة الأشجار”، جزءاً من هذه العناصر مع مفردات من الطبيعة والتراث والذاكرة الفلسطينية،
ومع كل هذا، لا يزال لديّ ما أقوله في سياق “فلسطينياذا”، ومن المتوقع مواصلة كتابة ملحمة شعبنا التي لا تنتهي ولا تحيط بها الكتب. وقد سبق أن أصدر الشاعر عز الدين المناصرة ديواناً بعنوان “كنعانياذا” في بيروت عام 1983، وأتيت بعده لأكتب جانباً آخر من فلسطين، وسيأتي آخرون ليكتبوا فلسطين وفق منظورات مختلفة، إذ إن فلسطين لا تنتهي، والكتب عنها لا تنتهي أيضاً.

العامري: “لا نريدُ سوى أرضِنا/ لا نريدُ جحيمَ الشّتاتِ/ ولا جنةً في الشّتاتْ”.
• ماذا تقول عن مخططات التهجير لأهالي قطاع غزة، وما رؤيتك للمستقبل؟
في البداية، من غرائب هذا الزمان، أن يطرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب مخططاته علناً على شاشات التلفزيون مباشرة، بكل غطرسة كما لو أنه الوصيّ على الشعوب كلها، في استعادة لصور الاستعلاء الاستعماري، واسترجاع أشكال الإبادة الجماعية التي ارتكبها الغزاة الأوروبيون ضد الشعوب الأصلية في قارة أميركا
، واليوم يطلّ قائد الرأسمالية المتوحشة مجدداً، ليطلق أوهاماً جديدة بمحو غزة وإعادة صياغتها الاحتلالية عبر اقتلاع أهلها من أرض أجدادهم. إنّ مخططات التهجير القسري ليست سوى هلوسة استعمارية وانقلاب ظلاميّ على التاريخ والجغرافيا والقيم والشرائع الأممية، تعيد للأذهان صورة الاستعمار القديم. هذه المخططات المسمومة لم تتوقف منذ النكبة حتى الآن، لكن الشعب الفلسطيني ليس تحت سنّ الرّشد، فهو صاحب الجغرافيا والتاريخ، وكلّ يوم يقدّم التضحيات ويقدّم للعالم كلّه دروساً في الصمود في أرضه التي لن يقبل لها بديلاً. وينقل كتابي “فلسطينياذا” صوت شعبنا الثابت في أرضه على الرغم من المأساة المتدحرجة: “لا نريدُ سوى أرضِنا/ لا نريدُ جحيمَ الشّتاتِ/ ولا جنةً في الشّتاتْ”.
(طائر الفينيق الكنعاني)
وقد رأينا في التمرين على العودة الكبرى، طوفان أبناء فلسطين خلال عودتهم إلى شمال قطاع غزة مشياً على الأقدام وفي عربات تجرّها الدّواب وفي سيارات قديمة، وهم يعرفون أنهم عائدون إلى أرضهم المدمرة وإلى ظلال الحطام، بعدما دمّر الاحتلال الصهيوني بيوتهم ومستشفياتهم ومساجدهم وكنائسهم ومزارعهم ومتاحفهم وحدائقهم خلال الإبادة الجماعية الأخيرة. كلّ هذا يؤكد أن فلسطين هي طائر الفينيق الكنعاني الذي ينهض مجدداً ودائماً من الرماد.، وها هم أبناء غزة ينهضون مجدداً من بين الركام، ليعلنوا أنهم بُناة الأمل.

العامري: يشهد التاريخ بأن فلسطين حاضرة دائماً في وجدان الشعب المصري
• ما دور الأمة العربية في رفض مخططات التوطين، وكيف ترى دور مصر التاريخي في دعم القضية الفلسطينية؟
– فلسطين على مرّ التاريخ لم تكن جزيرة معزولة عن محيطها العربيّ الذي يشكّل السند الأخويّ الحقيقيّ، وبالتالي من الطبيعي أن نرى الاصطفاف الشعبي العربي دعماً لفلسطين وتحريرها. ومن المعروف أنّ مصر كانت على مرّ التاريخ بمثابة الأخ الكبير لكلّ العرب. ويشهد التاريخ بأن فلسطين حاضرة دائماً في وجدان الشعب المصري الذي يعرف جيداً اتجاه البوصلة الفلسطينية، ولم يَحِدْ عنها أبداً. ولا ننسى الدور الثقافي العظيم لمصر بكل رموزها، ودعمها للأدباء والمفكرين والكتّاب والفنانين الفلسطينيين، وفي مقدمتهم إدوارد سعيد ومحمود درويش. وبالتالي من الطبيعي أن ترفض مصر وكل الدول العربية وكل أحرار العالم مخططات تهجير الشعب الفلسطيني، مهما كانت أشكال هذه الهلوسة الاستعمارية الاحتلالية، فأرض فلسطين من النهر إلى البحر لشعب فلسطين. ويعلّمنا التاريخ أن مصير الغزاة إلى زوال، وستبقى فلسطين الاسم الحركي للضمير العربي والعالمي.
- يصف بعض النقاد الصورة الشعرية بأنها “القوة المطلقة” في الشعر وبعضهم يصف الصور القوية بالزلازل، حيث تتشكل الصورة لديك بطرق شتى وتدفع النص إلى جماليات أكثر ارتباطا بالواقع، فكيف تنظر كشاعر ورسّام لقيمة الصورة في النص الشعري؟– الشعر فن يقوم على التجاوز، وعلى المجاز والتكثيف اللغوي والشحنة التعبيرية والمعمار الفنيّ، لذلك تأتي الصورة الشعرية ضمن هذا المفهوم قنطرة للتراسل بين المحسوس والمعنوي، بين الجزئي والمطلق، بين المتن والهامش، بين الظاهر والجوّانيّ، وبين الغامض والواضح. وهذا ما يعكس تآخي الفنون أيضاً، إذ تهاجر عناصر فن إلى فن آخر، وقد عبّرت تجارب كثيرة عن هذا التراسل وهذا التآخي، من خلال تجارب بين الشعر والرسم، وبين المسرح والرسم والشعر، وبين الشعر والموسيقى، وغير ذلك. كما برزت ظواهر تجريبية عبر ما يسمى القصيدة البصرية، والشعر الأدائي، والقصيدة الضوئية وغير ذلك. وفي تجربتي، تتراسل الكلمة مع الفن التشكيلي، حتى أنني أرسم كشاعر.
- بدا التناص لافتاً ومقصوداً في عنوان “فلسطينياذا” ليحيلنا إلى ملحمة هوميروس الشهيرة “الإلياذة”، وفي داخل كتابك الشعريّ يتجلى التناص مع النص القرآني في قولك: “وهنا، حتّى الطينُ يضيءُ/ كأشجارِ الزّيتونِ/ ولو لم تَمسَسْه شرارةُ نار”، فكيف تنظر إلى فكرة تحاور النصوص بشكل عام وقدرة ذلك التحاور على توليد جماليات جديدة، فضلاً عن نقل الرؤية الشعرية من مخيلة الشاعر إلى وعي القارئ؟ -نعم، التناص يأتي من خلال شبكة المرجعيات الحياتية والقرائية، وفي هذه الحالة يتكثف كل المحمول الجمالي والمعرفي والوجداني في إشارة أو كلمة أو عبارة، لأن التناص، مثلما قلت في سؤالك، يحيل إلى تلك المرجعية ومخزونها. من هنا جاء العنوان في كلمة مركّبة من اسم فلسطين واسم ملحمة هوميروس “الإلياذة”، ليقول العنوان “فلسطينياذا” الكثير في كلمة واحدة. ومع أنّ التناص يسهم في التكثيف التعبيري، وينقل القارئ إلى أرض مشتركة، إلّا أن هذا التناص قد يأخذ القارئ إلى الاستكشاف والتأمل والنظر من جديد، لأن التناص قد يتضمن انزياحات لغوية ودلالية، تحفزه على مزيد من البحث عن تلك المرجعيات النصيّة.

العامري: القراءة أكبر مكافأة لأى مؤلف ومصداقية الجوائز الأدبية العربية متفاوتة!
- ماذا تعني الجوائز للشاعر بشكل عام، وماذا تعني لك جائزة فلسطين العالمية للآداب بشكل خاص؟ ومن جانب آخر، كيف تنظر إلى درجة مصداقية الجوائز الادبية العربية ؟ – قصيدتي مظلّتي الوحيدة، وأنا تلميذ الأبجدية والحب والحياة، لا أنضوي تحت راية أحد، لأنني مظلّة نفسي، وسأبقى كذلك ما حييت. علّمتني القراءة والكتابة أن أتأنّى من غير تأخير، وفق الشعار الذي وضعته لي “تمهّلْ، لكنْ لا تتأخّر”. كما علّمتني التجربة أن أتخلّص من الأوهام الشخصية، حتى أكون ما أنا عليه الآن، فلم تعد تهمّني الجوائز أو العالمية أو الشهرة أو غيرها من الأوهام. ولكنْ، مع كل هذا، فإنّ للتكريم الحقيقي وقعاً وجدانياً لدى أيّ مبدع، مع الأخذ بالاعتبار ما كتبه الشاعر زهير أبو شايب عن كتابي “فلسطينياذا” على الغلاف الأخير، بأنه “جدير بالثناء والقراءة التي هي أهمّ مكافأة يمنحها القارئ للنصّ الحيّ”. وبالفعل، إنّ القراءة هي أكبر المكافآت التي يمكن أن يحظى بها أيّ مؤلف. أمّا عن جائزة فلسطين للآداب، فهي ذات معنى، لأنها تحمل اسم فلسطين، أعلى الأسماء الحسنى للأرض التي أنجبت الضوء والكلمة والفداء وسنبلة القمح الأولى ، وعن مصداقية الجوائز الأدبية العربية، فهي متفاوتة، إذ يلتزم بعضها بالمعايير الإبداعية بعيداً عن سطوة بعض الأسماء المشاركة، بينما يقوم بعضها الآخر على مجاملات وعلاقات، وربما على حسابات متعلقة بالمواقف السياسية حيناً، أو بالتوزيع الجغرافي حيناً آخر
عن الضيف:
- علي العامري، شاعر من الأردنّ وفلسطين، عائلته مُهجّرة من بيسان في العام 1948، إثر الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين. وُلِد في قرية وقّاص، وعاش طفولته في القرية الحدوديّة، القليعات، في وادي الأردن.
- شارك في مهرجانات وقراءات شعريّة عربيّة ودوليّة، في فلسطين والأردنّ والإمارات واليمن والعراق وتونس وسوريّة وفرنسا وإسبانيا وكوستاريكا ومقدونيا وكوسوفو والمغرب وكولومبيا وفنزويلا. وشارك أيضًا في ملتقيات “عن بُعد” أقيمت في إيطاليا ومقدونيا وأذربيجان وبوليفيا.
- تُرجمت له قصائد إلى 11 لغة هي الإسبانيّة والإيطاليّة والألمانيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة والمقدونيّة والألبانيّة والأذربيجانيّة والصينيّة واليونانيّة والبوسنيّة.
- شارك في عضويّة لجان تحكيم لعدد من الجوائز الأدبيّة والتشكيليّة. وكان عضوًا مؤسّسًا ومديرًا فنّيًّا لملتقى دبيّ التشكيليّ الدولي، عام 2013. شارك في ملتقيات تشكيليّة دوليّة، في الأردنّ والإمارات واليونان ومقدونيا ورومانيا وجورجيا ومصر. وشارك في معارض جماعيّة في الأردنّ والإمارات وفلسطين والكويت والولايات المتّحدة ورومانيا واليونان وجورجيا ومصر. وأقام معرضه التشكيليّ الأوّل “مرايا عميقة” في عمّان، العام 2015.
- صدرت له أربع مجموعات شعريّة، هي: “هذي حدوسي.. هذي يدي المبهمة”، و”كسوف أبيض”، و”خيط مسحور” التي صدرت بطبعتين عربيّتين، وطبعة باللغة الإسبانيّة عن بيت الشعر في العاصمة الكوستاريكيّة، سان خوسيه، و”فلسطينياذا” وهو كتاب شعري من قصيدة واحدة. كما صدرت له مختارات شعريّة بعنوان “كتاب الحدوس”. وصدر له كتاب بعنوان “رقيم الحبر” يتضمّن حوارات مع سبعة شعراء، هم سلمى الخضراء الجيّوسي، عبد الوهّاب البياتي، عزّ الدين المناصرة، ناتالي حنظل، ماريا غريك غانادو، محمّد القيسي، وشوقي عبد الأمير. كما نُشرت قصائد له في عدد المختارات الشعرية الصادرة باللغات الإسبانية والفرنسية والإيطالية والألمانية.
- عمل رئيسًا للقسم الثقافيّ في جريدة “العرب اليوم” الأردنيّة، ومحرّرًا مركزيّاً في جريدة “الخليج” في الشارقة، ورئيسًا لقسم الثقافة والفنون في جريدة “الإمارات اليوم” في دبي. وهو يعمل حاليًّا مديرًا لتحرير مجلّة “كتاب” (“الناشر الأسبوعي” سابقاً) التي تصدر عن هيئة الشارقة للكتاب، منذ العام 2018.
- عضو مؤسّس في جماعة أجراس الشعريّة، وعضو مؤسّس ونائب رئيس جمعيّة عرزال للثقافة والفنون في الأردنّ. عضو في رابطة الكُتّاب الأردنيّين، والاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب، ونقابة الصحافيّين الأردنيّين، وهو منسّق قارّة آسيا في حركة الشعر العالميّة.