لاشك أن الجغرافيا الاقتصادية هى نقطة فاصلة للشعوب ومع انتهاء العولمة والحركة الليبرالية أصبحت هناك حرب فكرية وأيدلوجية قد تكون غلفت بهذا الغلاف الاقتصادى لتتم إعادة تشكيل العالم.
هناك علامات استفهام كبيرة تسود الأسواق مع ذروة المخاوف والتقلبات بهذا العقاب الجماعى بالرسوم الجمركية وزادت معه التصريحات والتكنهات بعدما أعلنت الواشنطن بوست الأمريكية وبنك جى بى مورجان أن الركود والتضخم فى مرمى نيران التعريفات الجمركية ومعها كثر الجدل حول تداعيات قرارات ترامب وماذا سيفعل مع الرسوم المضادة حتى مع قرار تأجيل تنفيذها لـ90 يوماً ماعدا الصين وهل يتأثر سلوك وخيارات المستهلكين حول العالم وفى أمريكا بسبب هذه الحرب التجارية وهل هذه الرسوم ستحيى الصناعة الأمريكية ام ستقتلها؟
لاشك أن العالم فى حالة تموضع جديد بعدما أعلن ترامب قراراته التى لجأ إلى تأجيل تنفيذها لعدد من الدول لأن المشكلة هى سياسة «أمريكا أول»ا والتى بلا شك ستكون مكلفة للعالم كله وعلى الجميع تحضير نفسه لتغيير الأولويات وإعادة الهيكلة فالعالم يحلق فوق بركان من الفوضى وعدم اليقين فهل العالم مستعد لهذه المناورة الترامبية وإعادة تشكيل البنية التصديرية للدول لتفادى موجات التضخم؟.
يقول المحللون فى بلومبرج ان الركود التضخمى يلوح فى الأفق الزمنى وان رسوم ترامب خاصة على الصين لاتتوافق مع قواعد التجارة العالمية وتشعل حربا لايوجد بها منتصرون.. فقد أصبحت التعريفات الجمركية هى القصة الأبرز وحديث الأسواق فى العالم.. ومع تأجيل تنفيذها التقطت البورصة الأوروبية أنفاسها لكن ظلت الحرب بين أمريكا والصين قائمة خاصة بعد أن وصلت الرسوم الأمريكية إلى 125 ٪ وفى المقابل رفعت الصين رسومها إلى 84 ٪ فالحرب قادمة لا محالة وكما وصفها بعض الخبراء ستكون حربا عالمية اقتصادية والصين تملك أدواتها.
لاشك أن المؤشرات الاقتصادية حول العالم تتحرك بشكل ملحوظ لتقول كلمتها فكل قرارات الخطة الترامبية تدفع بوصلة الاقتصاد العالمى إلى مرحلة انتقالية تختلط فيها الاوراق فقد أسفرت إستراتيجية الضغط القصوى التى يمارسها ترامب عن زيادة حالة عدم اليقين الموجودة بالعالم فالدولار يهتز أمام سلة العملات العالمية الأساسية والذهب يكسر حاجز الـ3000 آلاف دولار كملاذ آمن والأسهم والسندات الأمريكية اهتزت بالاسواق والروابط الاقتصادية فقدت السيطرة على الأسواق.
فقد عاد ترامب بحروبه التجارية ليدفع العالم إلى سرداب الركود التضخمى والأسواق لم تكن مستعدة بعد كل هذه الآثار السلبية والمواجهة القادمة بين أوروبا وأمريكا.
لاشك ان العالم ما كان ينقصه أزمات فكفاه ما هو فيه من معاناة للاقتصاد العالمى بعد صدمتين متتاليتين أثرت كل منهما على جانب العرض والطلب وهما الجائحة والحرب الروسية- الاوكرانية ثم الصدمة الفجائية بحرب غزة التى يقبع معها الخوف والأزمات وتحول العالم إلى بقاع ساخنة أكثرها بالشرق الأوسط ثم اهتز الاقتصاد العالمى بفعل التوترات الاقتصادية والعوامل المؤثرة على الاقتصاد العالمى التى قلبت العالم رأسا على عقب، مما جعل هناك سؤالا هاما: هل الركود التضخمى مقاوم للسياسات الاقتصادية؟
لقدت أحدثت الازمات نوعا من الارباك للنشاط الاقتصادى وأدت الى ارتفاع معدلات التضخم لأن التأثيرات التى خلقتها على مستوى العرض وأسعار السلع الأساسية فى الأمد القريب اقترنت بالعواقب المترتبة على التحفيز النقدى والمالى المفرط فى مختلف الاقتصادات المتقدمة خاصةً الولايات المتحدة واقتصادات متقدمة أخرى زعزعت استقرارها.
ونأتى الى ما تحدثنا عنه سلفاً وهو الركود التضخمى هذه «التوليفة السامة» التى تثير الذعر فى العالم خصوصاً الاقتصادات الكبرى قبل المتوسطة والسؤال الهام ما هو الركود التضخمي، هو التضخم المصحوب بالركود وهو مصطلح يجمع بين الكلمتين الركود والتضخم فهو يصف الاقتصاد والذى يعانى من خلل حيث تستمر الأسعار فى الارتفاع بينما ينخفض النمو الاقتصادى مع الارتفاع فى معدل الزيادة لإنتاج السلع والخدمات.
ومن شأن هذه «التوليفة السامة» أن تقود العالم الى الافتقار الى النمو الاقتصادى بمرور الوقت وارتفاع نسب البطالة التى ظهرت فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى ظل الركود التضخمى تبدأ الأسر والشركات فى القلق من استمرار التضخم فى الارتفاع على المدى الطويل وهو ما يصبح نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها مما يدفعهم الى تعديل سلوكهم الاقتصادى بطريقة تحقق استمرار التضخم، ولا شك انه من الصعب اصلاح التضخم المصحوب بالركود حيث تقع هذه المهمة على عاتق المصرفيين المركزيين مثل الاحتياطى المركزى أو الفيدرالى لضمان استقرار الاقتصاد والبنوك المركزية فى الدول التى تعانى من هذه الازمة.
ومع تحول المزاج الاقتصادى العالمى الأسوأ على مدى التاريخ إلى نفى الجهالة نجد مفردات الصورة وهى عمق الالم الاقتصادى مع عداد الخسائر ولايوجد نقاط تلاقى لتطمئن العالم من أى باب.
وقد كشف التراجع الأمريكى عن قرارات الرسوم الجمركية ان هناك بالفعل خوفا من هذا الركود وخاصة على الأسهم الأمريكية التى خسرت نحو 90 مليار دولار وحاول ترامب أن يحد من هذا الخطر بتأجيل قراراته لمدة 90 يوماً، لكن الواقع يقول ان الركود التضخمى قادم لا محالة.
لقد أدت الحروب المتتالية التى لحقتها السياسات الحمائية إلى تفاقم المشكلة حيث عطلت صادرات روسيا من النفط والغاز والغذاء وأدى ذلك إلى تضخم الاسعار العالمية كذلك الحصار المفروض على الصادرات من الحبوب الأوكرانية.
ومع استمرار التصعيد المستمر وتوترات الملاحة البحرية يظل هاجس العودة إلى نقطة الصفر فى هذا التباين وعدم البقاء على حال.
لاشك ان الاقتصاد العالمى فى ظل الحرب الروسية- الأوكرانية والارتفاع الشديد لمعدل التضخم وتصاعد أسعار الفائدة والحرب التجارية المشتعلة بين أمريكا والصين.
ومع سياسة التشديد النقدى فقد توقع الاقتصاديون ان يحدث انكماش للاقتصاد العالمى مع تراجع النمو الاقتصادى الحالى وتكشف اخر تنبؤات البنك الدولى عن تخفيض كبير فى الافاق المستقبلية أو تتوقع ان يحدث انكماش فى الناتج المحلى العالمى بنسبة 3 % أى حوالى تريليون دولار بسبب أسعار الطاقة و الغذاء.
إن العالم عند منعطف كبير وخطير جعل القادة و صناع القرار فى العالم يعلنوها صراحة وبشكل رسمى ولأول مرة أن الركود التضخمى يلوح فى الافق.
بعد أكثر من ثلاثة اعوام من التوتر الاقتصادى العالمى الأسوء منذ الحرب العالمية الثانية والافكار الترامبية خارج الصندوق، أصبح الاقتصاد معرض مرة أخرى للخطر غير انه يواجه هذه المرة ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو فى آن واحد وهى حالة عالمية أو اقتصادية (غير مرغوب فيها) ولو حاولت دول العالم تجنب الركود الاقتصادى العالمى قد الإمكان فإن أثار الركود التضخمى السلبية يمكن أن تستمر لبضع أعوام وربما تتسبب عواقبها وأثارها بزعزعة استقرار الاقتصادات سواء كانت هذه الاقتصادات جيدة أو قوية أو منخفضة أو متوسطة الدخل ما لم تتحقق زيادات على جانب العرض وإعادة توزيع الأدوار العالمية.
فقد وجد العالم نفسه فى حالة دوران حول نفسه وتكالبت التداعيات الاقتصادية الصادمة التى طالت المجتمع الدولى كله مع استمرار الحرب وارتفاع التضخم وزادت عليه الحروب التجارية الجديدة.
لقد تأثرت شبكات الامداد وحركة التجارة نتيجة هذه الحرب الدائرة فى أوكرانيا وتوترات البحر الأحمر والتدابير الضرورية التى يجرى تنفيذها حالياً لإعادة أسعار الفائدة الى معدلاتها العادية أصبح من الأمور الصعبة، بل إن النزول بمعدلات الفائدة أصبح من الأمور الشائكة التى يحتار فيها حتى الفيدرالى الأمريكى الذى أوقع العالم فى براثن التشديد النقدي.
لقد أثرت الحرب فى حدوث انتكاسة كبيرة فى مسار نمو الدخل وجهود الحد من الفقر فى الاقتصادات النامية وضاعت جهود مقاومة التحديات التى أوصلت النمو الى معدلات لم تكن فى الحسبان أى بالكاد نصف معدل النمو الذى تحقق فى عام 2021.
سيظل نصيب الفرد فى عام 2025 أقل من مستوياته التى سادت قبل الجائحة بنحو 40٪ فى الاقتصادات النامية وفى كثير من بلدان العالم سيكون من الصعب تجنب الركود الاقتصادى ومع القيود المفروضة على امدادات الغاز الطبيعى خصوصاً لإنتاج الكهرباء فى البلدان الأفقر سيكون الإعلان عن زيادات كبيرة فى الإنتاج على مستوى العالم عاملاً اساسياً لإستعادة النمو غير التضخمي.
لقد ضعف الاستثمار فى معظم انحاء العالم وحتى مع وصول التضخم حالياً الى مستويات معقولة نوعا ما إلا أنه على مدى عقود فى الكثير من البلدان وتوقع توسيع جانب العرض مع الاخذ فى الاعتبار خطوات ارتفاع الأسعار لفترة أطول مما هو متوقع حالياً.
وصول الدين العام الخارجى فى الاقتصادات النامية وأيضاً الاقتصادات الكبرى الى مستويات قياسية خلال العامين الماضيين ومنها الديون ذات الفوائد المتغيرة جعلت المديونية تقفز حتى فى الدول الصناعية الكبرى مثل اليابان فهى تقفز فجأة ومع تشديد التمويل فى العالم وانخفاض قيمة العملات بدأت حالات المديونية الحرجة تنتشر كما ان تشديد السياسات النقدية بزعامة الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة فى اوروبا مع الدول الناشئة جعل تكلفة الاقتراض على مستوى العالم تزداد بشكل غير مسبوق.
إن الاقتصادات العالمية فى جميع انحاء العالم يجب ان يكون لديها مرونة كافية للتخلص من الأوضاع المعاكسة المسببة للركود التضخمى كما ان آخر السياسات النقدية ذات مصداقية أكبر لتحقيق استقرار فى الأسعار مع العمل من جانب الحكومات على تخفيض الركود التضخمى واتخاذ التدابير المناسبة فى هذه الحقبة الاستثنائية التى تتداخل فيها الازمات العالمية وسيكون على واضعى السياسات فى العالم التركيز على خمسة مجالات رئيسية.
اولاً : تنسيق الجهود لتوفير الدعم اللازم من المساعدات والحزم المالية والمبادرات الحمائية الاجتماعية وهذا ما تفعلة الدولة المصرية بالمبادرات الرئاسية.
ثانياً : يجب على واضعى السياسات العالمية مجابهة القفزة المفاجأة فى الأسعار خصوصاً سعر النفط والغذاء فمن الضرورى تعزيز امداد السلع الأولية الرئيسية للغذاء والطاقة والأسواق تعمل بنظرة استشراقية للمستقبل ومن ثم فإن مجرد الإعلان عن ضمان امداد السلع فى المستقبل سيساعد على خفض الأسعار وتوقعات التضخم كما يجب على جميع البلدان دعم شبكات الأمان الاجتماعي.
ثالثاً : يجب ان يتكاتف العالم فى تكثيف الجهود المبذولة لتخفيف أعباء الدين، فمخاطر الديون تواجه الاقتصاد العالمى فى ظل غياب جهود تخفيف العبء بإسقاط بعض المديونية بتعاون الاقتصادات لعبور مرحلة الركود التضخمي.
رابعاً : تسريع الجهود فى التحول الى الطاقة المتجددة منخفضة الكربون و تقليل الاعتماد على الوقود الاحفورى فالعالم امام معادلة صعبة هى طموحاته المستقبلية نحو الطاقة المتجددة والتحديات العالمية جراء الحرب الروسية- الأوكرانية.
خامساً : المزيد من الاستثمارات فى مشروعات الكهرباء ومصادر الطاقة الانظف ورفع كفاءة استخدام الطاقة ينبغى على واضعى السياسات على الصعيد العالمى وضع أطر جادة وراعية للمناخ وتغيراته التى كانت فى الماضى نوع من أنواع الترف أو الخيال العلمى وتحولت كما قال العلماء إلى حقيقة على أرض الواقع بخوف ورعب شديدين.
إن استعادة الرخاء طويل الأمد يتوقف على استئناف النمو بوتيرة أسرع ووجود بيئة أكثر استقراراً للسياسات القائمة على القواعد الصحيحة مالياً ونقدياً، فلو تخيلنا انتهاء الحرب الروسية- الأوكرانية وتضاعفت الجهود لإعادة بناء الاقتصاد العالمى وانعاش النمو الاقتصادى مع بذل الجهود من مجموعة البنك الدولى و محاولة السيطرة على أسعار الغذاء والطاقة قد يؤدى الى استقرار حالة الاقتصاد وتراجع الركود التضخمى وأعباء الديون المفرطة بشكل متزايد ومحاولة فرض حالة من المساواة والاستقرار الدولية والانتباه للمناخ.
فترامب يهش بعصاه أوروبا والصين وغيرهم والاقتصاد ليس ترفا وانما علم للأسواق والتحركات والسياسات المالية والنقدية كذلك رصد حركة الأسواق على مستوى العالم ليست عظيمة أو سهلة فالحيز الاقتصادى العالمى لايحتمل تسارع الاخبار والقرارات والسياسات الحمائية واختلاط الأوراق حتى لا يدخل العالم إلى سرداب الركود التضخمى الذى يلوح فى الأفق مع هذه القصة التى تشغل العالم ليبرز السؤال العالق دوماً.. من هم أصحاب القرار فى مواجهة ترامب والحرب التجارية التى اشتعلت مع الصين وسيدفع العالم ثمنها وفى المقدمة المواطن الأمريكى نفسه فأمريكا أولا مكلفة حتى للأمريكان أنفسهم والعدوى تنتقل سريعا بين الأسواق فهل خيارات ترامب الصادمة تدفع العالم إلى سرداب الركود التضخمي.