ضاعت القيم وسط زحام الحياة وغزو التكنولوجيا
فى زمن ليس ببعيد، كانت الحياة بسيطة، لكنها مليئة بالمعانى الصادقة، البسمة صافية والمجالس عامرة بالأحاديث والضحكات غامرة، وكانت كلمة «عيب» لها وزن، و«ميصحش» تقال فتحترم، كنا نرى الجار أخا، والأب صديقا للجميع، والعائلة سوراً منيعاً يحميك من قسوة الأيام، أما اليوم فكل شىء تغير وتبدل، وكأننا فقدنا ملامح الزمن الجميل، وضاعت القيم وسط زحام الحياة وغزو التكنولوجيا.
زمان كانت الأسرة تجتمع حول «الطبلية»، وكان لكوب الشاى بعد العشاء نكهة خاصة فى ظل دفء الحديث، كانت لمة العيلة مقدسة، وصلة الرحم جزء لا يتجزأ من يومياتنا، أما الآن، فكل فرد مشغول بشاشة هاتفه، وتحولت الجلسات العائلية إلى صمت متقطع لا يكسره سوى صوت اشعارات «الواتس» و«الفيسبوك».
ضاعت الأصول ولم يعد الحياء هو المعيار، تبث أفلام المخدرات والبلطجة والعرى ليل نهار، وكأنها الدليل الوحيد على «النجومية»، والسؤال أين ذهبت أفلام الأبيض والأسود التى كانت تحمل رسالة وقيماً؟ أين اختفى الفن الذى كان يعلم قبل أن يسلي؟ لقد تبدلت الأذواق، وأصبح الانحراف شطارة، والتعدى على الآخر بطولة، والحياء ضعفا.
حتى رمضان، ذلك الشهر الكريم الذى كنا نترقبه بشوق ولهفة، ضاع طعمه، غاب صوت الشيخ محمد رفعت، ولم نعد نسمع دعاء النقشبندى قبل الإفطار، بل اختفت الروحانيات وسط إعلانات المسلسلات وسهرات «الترند»، وأما العيد، فلم يعد للفرحة فيه مكان.
التعزية والتهانى لم تعد لقاء أو مكالمة، بل صارت بالأيموشن بـ»أحزننى» أو «أسعدنى» تتنقل عبر تطبيقات بلا روح، حتى المشاعر أصبحت رموزا تعبيرية بلا حرارة، التكنولوجيا التى كان يفترض أن تقربنا، فرقتنا، وجعلتنا نعيش حياة افتراضية بديلة، نبنى فيها مجدا زائفا خلف الشاشات، ونتقمص فيها أدوار البطولة أو الضحية أو الناصح أو الفالح.
يغرى أحدهم جارته برسالة، ويخدع آخر بائعا بسيطا عبر إعلان، ويبيع ثالث شقة خيالية بـ100 مليون جنيه على منصة افتراضية، عالم مقلوب، تتغير فيه الحقائق وتطمس فيه القيم، ويضيع فيه الإنسان بين «السوشيال ميديا» بحياتها الافتراضية وبين الواقع.
ورغم كل هذا، ما زال الأمل قائما، ما زال هناك من يشتاق للزمن الجميل، من يحن لكلمة «صباح الخير» وجهاً لوجه، من يحتاج دفء لمة عائلية بلا هواتف، لصوت الآذان وقت المغرب، و«قعدة البلكونة» مع فنجان قهوة وحديث من القلب.
العودة ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى وعى، وإرادة، وإيمان بأن الزمن الجميل لم يكن زمناً، بل قلوبًا، وإذا أردنا أن نعود له، علينا أن نعيد إحياء هذه القلوب، ونحيى ما دفناه من قيم وأصالة.