ما إن تمر ذكريات الريف فى مخيلتى حتى استعيد بساطة الحياة فى أروع معانيها؛ فهناك تنسّمنا أولى روائح الحياة الدافئة بين أب وأم كانا أحب الناس إلى قلبي، فهما رحمهما الله كانا ينبوع الحنان والحب والأمن؛ فلم تكن الحياة فى الريف زمان مجرد مكان أو وقت، بل كانت نموذجًا للإنسانية الصافية التى تقوم على البساطة والقيم الراسخة، ورغم التحديات والصعاب وشظف العيش لدى الكثرة الغالبة من أهلنا فى القرية لكن كانت هناك إنسانية وحب لو وزِّعتا على الكون كله لوسعتاه، كانت السعادة تملأ القلوب، وكانت الروابط الاجتماعية قوية حميمية تجعل من الريف مكانًا ينبض بالحب والسلام؛ إنها حياة تستحق أن تُروى للأجيال القادمة كنموذج يحتذى به.. فهذا هو الرِّيف الذى رأيتُه فى طفولتي، وتَربيتُ وعِشتُ فيه ردَحًا من الزمن فى صِباى ومطلع شبابي، وأدْركْتُه على سيرته الأولى من البَساطة والبَداءة والفطرة.
ومن عظمة الريف أن معظم القيادات والشخصيات العامة والعلماء خرجوا من بطن الريف الذى لم تكن الكهرباء دخلته بعد.. فهناك مخزون القيم الذى لا ينفد، هناك تعاون وتكافل وتزاور ومحبة وتآزر.. هناك جمال الطبيعة والصحة وصفاء النفوس مبعث السعادة ومصدر البهجة والراحة النفسية التى شكلت نسيجًا اجتماعيًا متينًا يربط بين سكان القري.
كان سكان الريف يدعمون بعضهم فى الأفراح والأتراح. إذا كان أحدهم فى حاجة للمساعدة فى الحصاد أو بناء منزل، تجد الجميع يتكاتفون دون مقابل.
هناك الحفاظ على العادات والتقاليد، هناك الاحترام المتبادل بين الصغير والكبير، فالكبار يرحمون الصغار، والصغار يُوقرون الكبار، والكل تربوا على قيم أصيلة وكرم فطرى يجعل فى كل بيت حجرة للضيوف لا يشغلها أهل البيت بل هى جاهزة لكل غادٍ ورائح.. هناك كل بيت خلية نحل ووحدة منتجة، ينتج خبزه ويبعث بما يفيض لأهل المدينة الذين تمتد جذور أغلبهم إلى ريف مصر وصعيده.
فى الريف وتحديدًا فى بيشة قايد بالزقازيق كانت لنا ذكريات لا تنسي؛ هناك حفظنا كتاب الله وتناقلنا جيلاً بعد جيل أغانى شعبية وأمثالًا وحكايات وتراثًا لا يزال يلتصق بذاكرتنا.. هناك كان الجد والجدة يحكيان القصص للصغار فى الليالى الهادئة، مما ساعد على نقل القيم والأخلاق من جيل إلى آخر.
أما اليوم فنحن الآن فى عصرٍ يُسمونه عصر العَوْلَمة تارةً، وعصر ثورة الاتصالات تارةً أخري، ومن بعد قالوا عصر ثورة المعلومات، أو العصر الرَّقمى أو التِّقَني، أو الإلكترونى أو عصر السوشيال ميديا، حيث القريب منك بعيد، والبعيد عنك قريب حيث انقطعت الحرارة عن أسلاك العلاقات الإنسانية.. لكن هل لايزال الريف على بساطته وفطرته وإنتاجيته أم تراجع دوره وأصابه ما أصاب المدن من تغير وضعف أخلاقي.
لست أعيب على الريف أنه تطور؛ حتى تغيرت منظومة عمل الفلاح، فصار يجذب حَبل ماكينة الرَّى ليُديرها بدلا من «الطنبور» أو «الشادوف» أو «الساقية» وصار غيرها يُدارُ بمفتاح عَبْر «كونتاكْتْ» مثل السيارة. وولَّى زمن الحَصاد اليدوي، لتقوم الميكنة بهذا الدور كله، تحصُد المحاصيل، وتفْصِلها عن سيقانها، أو تَقْلَع الدَّرنات من الأرض بدلا من «النُورَج» و»الفأس» و»المِدراة». ولم يَعد الفلاح يعمل من الثامنة صباحًا حتى الغروب، وإنما عدة ساعات تُعد على أصابع اليد الواحدة قبل الشروق، على طريقة «سَلق البيض».. ولا أبالغ أنه صار يحمل الهاتف الخلوى بين يديه ولا يكاد يرفع عينيه عن شاشة التواصل الاجتماعى ومواقع الدردشة ومقاطع الفيديو.
ولست أعيب على بيوت الفلاحين أنها تحوَّلت من بُيوت الطُّوب اللَّبِنْ إلى عماراتٍ عملاقة تخترق جدرانها أجهزة التكييف، وتتخلَّلُها المصاعد الكهربائية بدلاً من السَّلالم الخشبية أو الطينية فتلك سنة الحياة، لكنى أعيب عليها أنها صارت تقليدًا أعمى للمدينة بل للغرب، وتهاوى قيم التواصل والتراحم والبر والتماسك الأسري.
فقد الريف روحه وبساطته؛ فقد ذهَبَ أدْراجَ الرياح الفُرْن البلدي، ليأخذَ مكانه الفُرن الحكومى الآلي، أو نصف الآلي، أو الفرن المنزلى بالغاز، وحَلَّتْ أطباق التقاط الأقمار الاصطناعية محل حطَبْ القطن والذُرة فوق السطوح. وشبكات «الواى فاي» وشبكات الإنترنت، محَل «سيمافور» وسلك تليفون دَوَّار العُمدة.
أما حُرمة المآتم فلم تسْلَم هى الأخرى من جنون الحداثة، إذ دخَلتْ عليها بدعة تصويرها بالفيديو.. لماذا؟ لستُ أدري! هل الذكرى جميلة إلى هذا الحد؟! أم لمُقاطعة مَن لم يحضر العزاء!
فى الريف كل شيء تغيَّر – بحق – تغيرًا جِذريًا، فى الأدوات، ونَمَط الحياة، وأساليب المعيشة، ولم يتغيَّر الإنسان إلى الأفضل بل انتكست الأخلاق.
لا أعيب على الريف ما وصل إليه من «تمدن» حيث صار «الميكروويف» بديلاً «للكانون». ناهِيكَ عن الغسَّالات الأوتوماتيكية، والثلاجات، و»الكِتْشِن ماشين» وماكينات الطَّحين الحديثة التى تجعل الدقيق من ثلاث درجات، بعد أن ولَّت أيام «الرَّحَي» والقادوس القديم وحَجَر الطحين.
ولست أعيب أن السُّوق ذهبَ إلى غير رَجعة، بعد أن أنهَى حياته «السوبر ماركت» وخدمة التوصيل للمنازل من خلال «التُّوك تُوك» وانتشرَت مَغاسِل «الدِّرايْ كلين» للسِّجاد وللملابس، بدلاً من «الطِّشت» أو الحجر على شاطئ التِّرعة.
وانتشرَتْ صناعة المخبُوزات والحلوَي، و»البيتزا» والمشويات، والأسماك الجاهزة، والكافيهات، وصالات الأفراح؛ بعد أن كانت الاحتفالات تجرى فى «جُرْن» القرية أو الدَّوار.
أما التعليم فلم يسْلَمْ فى الرِّيف من هذه الحَداثة، فالحضَانات العربى واللغات بدلاً من الكُتَّاب والمدارس الحكومية.
وانتشرت فروع البنوك و»الفيزا كارت» لقَبْض المُرتَّبات والمعاشات ورحِم الله كاتب الماهيات، ودفتر التوفير، والبوستة، ناهيكَ عن المحمول و»التابلت» اللذين لا يفارقان الفلاحين، فصارت الأحقاد والأمراض النفسية تحكم المعاملات لدى البعض.. وصار البعض بكل أسف يردد القول الشائع هو: من طلب العلا هجر القرى فإن الحقد فى الأرياف ميراث.. رحم الله الريف زمان.