من الأمور السعيدة التى تصادفك فى هذا العالم، أن تقرأ لكاتب فى موهبة ودأب، ورهافة وحساسية إبراهيم عبد المجيد، وتقابله، كتابة هذا الكاتب الكبير المؤثر فى أجيال وأجيال من الكتاب والقراء هى كتابة باقية…
يؤرخ لتجربته وتجربة البلد الذى عاش به وأحبه، تتسع الرؤية فى مشروعه لتضم تاريخ الإسكندرية، والنقاط الكبيرة الفارقة فى الوطن الكبير مصر، ترصد البشر والتحولات التاريخية، يمكنك أن تلحظ الزمن وفعله وتغيراته.
إبراهيم عبد المجيد يكتب تاريخه الشخصى وتاريخ الوطن معا.. تلتحم حكايته، تصنع جسرا بين الماضى والحاضر، ذلك الرجل صاحب المشروع الأدبى الضخم، والإنسان العذب الرقيق الذى يمد يد العون والمشورة للأدباء الجدد بكل حب وسعة صدر، الذى يسعدك زمانك إذا جمعك به مكان، وسمعت حكاياته المتدفقة المشحونة بالزمن والخبرة والإنسانية..
صاحب ثلاثية الإسكندرية ومبدع عتبات البهجة، وبيت الياسمين، وصياد اليمام والعشرات من الروايات والمجموعات القصصية والكتب والمقالات والحكايات.
> متى بدأت علاقتك بالكتابة؟
– كنت فى الصف الثانى الإعدادى عام 1959. وكان لدينا فى مدرسة طاهر بك الإعدادية بالورديان بالإسكندرية مكتبة نذهب إليها مرة كل أسبوع نقرأ ما نحب. وكان ذلك أيضا فى مدرستى الابتدائية بالقبارى. وذات مرة قرأت رواية للفتيان لمحمد سعيد العريان عنوانها «الصياد التائه» تاه فيها الصياد فيما أذكر فى الصحراء وظلوا يبحثون عنه فلم يجدونه. ووجدت نفسى أبكي متأثراً. جاءنى أمين المكتبة وسألنى لماذا تبكى يا إبراهيم. قلت له «الصياد تاه ومش لاقيينه». فقال لى «أنت مصدق.. دى قصة من خيال المؤلف». وبعد أن حصلت على الإعدادية وجدت نفسى مدفوعا للكتابة. كلما قرأت رواية حاولت تقليدها وأن أعيد تأليفها بلغتي وخيالي. فعلت ذلك مع أربع أو خمس روايات أذكر منها رواية «أنا الشعب» لمحمد فريد أبو حديد، و«سلوى فى مهب الريح» «لمحمود تيمور» .
> ومتى تحديداً بدأت تكتب نفسك؟
فى السادسة عشرة من عمرى توقفت عن ذلك وبدأت أؤلف من خيالى بعيدا عن أى أحد فتننى الشعر فكتبته ثم توقفت عنه أمام فتنة القصة والرواية.
انشغلت بالقصة القصيرة أكثر وقتها. للأسف ضاعت كل الكراسات التى كتبت فيها ذلك، ومنها كراسات كنت أترجم فيها قصصا مبسطة عن اللغة الإنجليزية، وأكتب فى صفحتها الأولي، أيها القارئ هذه ترجمة شاب صغير فاغفر له أخطاءه. لم أكن وصلت إلى الثامنة عشرة من عمرى بعد. كانت أياما جميلة والله.
> لا يمكن أن نحاور «إبراهيم عبد المجيد» دون أن نتحدث عن المكان وتحديداً «ثلاثية الإسكندرية» فهل كان الفكرة فى البداية الكتابة عن الحرب العالمية الثانية أم الاسكندرية الكوزموبوليتانية.. حكاية المكان وتاريخه؟ وهل كانت الكتابة فى الثلاثية متصلة أم تخللها فترات من التوقف؟
– لم تكن لدى خطة لكتابة ثلاثية. بدأت برواية «لا أحد ينام فى الإسكندرية» ثم انتبهت إلى أن هذه المدينة الكوزموبوليتانية انتهت بدأت أفكر فوجدت أنى فى حاجة لكتابة جزء ثان يمكن أن يقرأ منفصلا أيضا عن كيف تغيرت المدينة بدءا من الخمسينيات. كل جزء يمكن قراءته منفصلا لأن الثلاثية عن المكان والمدينة وليست عن أجيال من الأبطال. تجدين من «لا أحد ينام فى الإسكندرية» مثلا شخصية واحدة تظهر فى «طيور العنبر» والأمر نفسه فى الجزء الثالث «الإسكندرية فى غيمة». الخمسينات وكيف كانت سياسية الدولة وعبد الناصر الاقتصادية وكذلك أحداث مثل حرب 1956 سببا فى خروج الجاليات الأجنبية من يونان وأرمن وإيطاليين وفرنسيين ويهود وانجليز وغيرهم. صارت المدينة كما كان يقال وقتها مدينة مصرية، وإن ظلت الثقافة الشائعة بين الناس هى ثقافة المدينة العالمية التى تطل على البحر المتوسط ومنه جاءت قيمتها عبر التاريخ. ثم انتبهت إلى أنها فقدت حتى طابعها المصرى وثقافة البحر المتوسط وصارت مدينة سلفية وهابية. فكانت رواية «الإسكندرية فى غيمة» عن سنوات السبعينيات فى ظل وجود جماعة الإخوان الارهابية والعائدين بأفكار متطرفة، وضاعت الكثير من معالمها والعلاقات التى كان على رأسها التسامح. لم نكن نعرف ملابس الصحراء ولا الحجاب والنقاب ولا الفتنة الطائفية وغير ذلك كانت احتفالات الاقباط والمسلمين فرصة رائعة للجميع يحتفلون بها معا وانتهى ذلك ووصلنا إلى أن الاحتفال برأس السنة الميلادية حرام. وهذا أبسط الأمثلة. هكذا جاءت الثلاثية. السنوات الفارقة بين كل عمل وآخر كانت لهدوئى وعدم تعجلى كنت أقول لنفسى ماذا سيحدث لو مت مثلا قبل أن انتهى من الثلاثية. لاشيء فهناك الكثيرون يكتبون الروايات. وبين هذه السنوات كتبت أعمالا أخرى خاصة بين طيور العنبر والاسكندرية فى غيمة حيث كتبت روايات عن القاهرة مثل «برج العذراء» و»عتبات البهجة» و»فى كل أسبوع يوم جمعة» أنا دائما لا أتعجل، وأترك الأمر إلى الله.
> كتابك «ما وراء الكتابة» واحد من امتع الكتب التى قدمت سيرة الكتابة فى أعمالك كيف حسبت المغامرة فى تقديم هذا الكتاب، ومجازفة كسر الإيهام لتقديم الحكاية والأفكار وما وراءها كأن يقدم الساحر سر لعبته؟
– منذ البدايات اكتب المقالات فى السياسة والحياة والفكر. عرفت من قراءاتى أن كتابا فى العالم كتبوا عن تجاربهم الأدبية ففعلتها أول مرة فى كتاب صغير عما وراء ثلاثية الإسكندرية، ثم توسعت إلى بقية أعمالى حتى عام 2015 فى الكتاب الثانى والأشهر. كان الأول مثل بروفة أولي. ولو أتاح لى الوقت العودة لأضفت ما وراء الأعمال التى كتبتها بعد عام 2015. قصدت بالكتاب تقديم حالتى للقراء وكيف تكتب لعلها تفيدهم، وكيف تستفيد مما تقرأ فى النقد أو الفلسفة أو تشاهد من فنون كالسينما والفن التشكيلى وهكذا.
> قدمت الرواية والقصة القصيرة والكتابة الإبداعية الحرة أيها أقرب لقلبك؟ وهل تختار الفكرة قالبها أم ماذا؟
– أبدأ من نهاية السؤال فى الإبداع فالفكرة أو الحالة هى التى تختار قالبها. أما المقالات فهى العالم الموازي. هى عالم العقل فى مقابل عالم الروح الذى هو الرواية والقصة القصيرة المقالات يمكن أن أكتبها فى أى وقت، أما القصة والرواية فلا أكتبها إلا إذا طلبت هى منى ذلك. هل تستطيع أنثى أن تلد فى الوقت الذى تحدده هي؟. ذلك هو الإجهاض والإبداع مثل الحمل له موعده. غير ذلك اجهاض فى الإبداع ذاكرتى هى النسيان. كل ما يشغلنى أتركه يذهب إلى اللاشعور، ويأتى فى الوقت الذى يشاءه هو أترك نفسى له يساعدنى صمت الليل الذى أحب فيه كتابة القصة والرواية، والموسيقى الكلاسيكية التى ادمنت سماعها أثناء الكتابة منذ عشرات السنين تحملنى إلى فضاء واسع. لكن المقال هو ابن العقل لا الروح فأكتبه فى أى وقت.
> حصدت عدداً كبيراً من الجوائز «جائزة نجيب محفوظ، جائزة الشيخ زايد، جائزة النيل، الدولة التقديرية»، أى جائزة أسعدتك أكثر من غيرها؟
– كلها أسعدتني. وكلها أفادتنى فى مطالب الحياة وخاصة العلاج فى السنوات الاخيرة. لكن تظل أول جائزة لا تنسي. كانت عام 1969.. فى مسابقة أقامها نادى القصة بالإسكندرية الذى أسسه وقتها الصحفى والكاتب فتحى الإبياري. كانت الجائزة ثلاثة جنيهات اشتريت بها كلها صحفا صرت أوزعها على من أقابلهم فى الطريق. وبالمناسبة هذه هى الجائزة الوحيدة التى تقدمت لها. بقية الجوائز جاءت من ترشيحات من أجهزة ثقافية أو من الناشرين، بعد تلك الجائزة الأولى قررت أن أترك الإسكندرية وأعيش فى القاهرة باعتبارى صرت مشهورا كما قال أصدقائى وخاصة أن القصة تم نشرها على صفحة كاملة فى جريدة أخبار اليوم مع مقدمة لمحمود تيمور عنوانها «هذا قصاص موهوب». رحت أرسل قصصى لمجلات تصدر فى القاهرة مثل المجلة والطليعة والهلال، وأزور القاهرة التقى مع كتابها فى مقهى ريش، حتى انتقلت للعمل بالثقافة الجماهيرية، وعشت فى القاهرة منذ عام 1974 بشكل مستمر.
> منذ فترة مررت بتجربة مرض وسافرت للعلاج بالخارج وشعرت بألم كبير، كيف تفكر فى تلك الفترة، وهى يمكن أن تحولها لعمل إبداعي؟
– أحاول أن أنساها. لا أحب أن اتذكرها. كانت أياما صعبة لا أرجوها لأحد. وحتى الآن هى تحقق لى النسيان.
> تحول عدد من رواياتك لأعمال فنية دراما وسينما آخرها «عتبات البهجة» فهل ترى أن تحويل الأعمال الأدبية لدراما فى صالحها ام ماذا خاصة مع ما يطرأ عليها من تعديلات تبعا لنوع الفن التى تتحول له؟
-عشت مؤمنا بأن الرواية لغة والسينما صورة. والصورة ممكن أن تلخص عشرات الصفحات فى مشهد واحد. كما أن الرواية من صنع شخص واحد بينما العمل السينمائى أو التليفزيونى من عمل السيناريست والمخرج والمصور والممثلين ومؤلف الموسيقى والمنتج أيضا الذى قد تكلفه بعض المشاهد أموالا كبيرة فيتم الاستغناء عنها، لذلك أنا لا أهوى المقارنة بين الرواية والعمل السينمائي. لكن فى كل الأحوال تحويل رواية إلى عمل سينمائى يساهم فى انتشاره حتى لو جاء العمل أقل قيمة فنيا من الرواية، فالنقد أو الانتقاد الموجه إليه يفيد أيضا فى انتشار الرواية. هكذا كان نجيب محفوظ وكتاب كثيرون فى العالم وأنا انضم إليهم وليس لدى غير الشكر لكل من ساهم فى تحويل عمل أدبى لى إلى دراما وآخرها الشركة المتحدة فقد سعدت بتحويل «عتبات البهجة» إلى مسلسل درامى للنجم يحيى الفخرانى لعبت الصدفة دوراً كبيراً فى هذا العمل، لكنى سعدت جدًا بهذا العمل.
> ما الذى لم تقدمه لك الكتابة بعد وتنتظر أن تحققه؟
– أهم ما قدمته لى الكتابة الإبداعية هو المتعة وأنا أكتب، والانفصال المؤقت عما حولي، وحياتى مع شخصياتى التى جعلت لى عوالم خاصة أجمل مما حولي.
ما بعد الكتابة لا يهمنى فمتعة الابداع هى الحياة الحقيقية المقالات هى التى تؤلمنى فكثيرا ما كتبت وكتب غيرى عن قضايا سياسية واجتماعية وحلول لها، لكن الأمور للأسف تأتى على غير ما يرام. لكن كتابة الرواية والقصة تخفف الآلام.