جاءت كلمة الرئيس السيسى خلال الاحتفال بعيد المولد النبوى لتدق ناقوس الخطر حول العديد من الأمور التى يراها سيادته تستحق الانتباه والتنبيه، كانت مفاهيم الوعى والدولة الوطنية وقيم العمل والبناء والتسامح والفهم هى المفردات التى كررها الرئيس فى اكثر من مناسبة وكانت اللغة العربية لها النصيب الأوفر فى هذا الإطار، الرئيس وكعادته يهدف إلى ان يوقظ المجتمع ويستنهض هممه تجاه قضايا الوعى والحفاظ على الهوية من خلال الحفاظ على اللغة العربية التى تمثل وعاء للهوية الوطنية، أتمنى أن تتحول دعوات الرئيس إلى برامج مجتمعية تعبر عن واقعنا وتضع الأمور فى نصابها الصحيح، من هنا أتذكر ما كتبته هنا فى هذه الزاوية حول ما تتعرض له لغتنا العربية من اهانات متتالية ومستدامة وتذكرت حينما حاولت احدى شركات العطور العربية ان تفتح لها فرعاً فى شارع الشانزلزيه واختارت المكان الذى يليق بماركة العطور العربية الشهيرة والتى تخصصت فى العود والبخور والفواحات الشرقية، قررت الشركة وضع «اسم البراند» باللغة العربية فى قلب باريس التى تناهض كل اللغات غير الفرنسية على أراضيها، استمرّت الشركة فى محاولاتها لمدة ثمانى سنوات كاملة، فالقوانين هناك شديدة الصرامة تجاه كل ما يجعل اللغة الفرنسية فى غير موضعها فى أعين الفرنسيين، وبعد كل هذه السنوات والمصروفات والتكاليف منحت السلطات الفرنسية للشركة العربية ترخيصا بوضع العلامة التجارية بخط صغير جانبى بجوار الاسم باللغة الفرنسية بحجمه الضخم المعتاد فى كل مكان، تذكرت هذه القصة الحقيقية وأنا احضر حفل تسليم الرخص للمواقع الإخبارية والصحفية فى المجلس الأعلى للإعلام، لقد هالنى وأفزعنى كم الأسماء والعناوين والعلامات التجارية لهذه المواقع وهى بلغات غير عربية، هناك أسماء انجليزية وفرنسية وحتى صينية، وكنت أسأل بعض هؤلاء عن معنى الاسم ودلالته ولم أجد لديهم اجابات مقنعة، أين اللغة العربية فيما يجري، اكتشفت ان محركات البحث تحتفى كذلك بكل ما هو غير عربي، وسرحت قليلا بخيالى فى شكل شوارعنا العربية والصورة الذهنية اللغوية فوجدت ان اللغة العربية باتت غريبة بين أبنائها، حتى فى منازلنا وبين اولادنا صارت اللغة العربية عنوانا للتخلف والرجعية وصورة عاكسة فى أدمغة الكثيرين لعدم الحداثة! تحولت كلمة الحديقة إلى «جاردن» وكلمة حلويات إلى «سويت» والجدل والنقاش إلي»ديبيت» وإعجاب إلي» لايك «وهذا لم يأت من فراغ، فالمدارس والجامعات الدولية تعمق لغة وتاريخ تلك البلدان، والشركات والمحلات والكافيهات تسارع فى إطلاق الأسماء الأجنبية كنوع من الحداثة والعولمة والتطور، ولاحظنا ان الفنانين والقدوات ورجال وسيدات القوة الناعمة يستخدمون اللغة الهجين والتى لا تعرف أهى عامية أم فصحي، أهى عربية أم فرانكوآراب! حالة من المسخ والفوضى نتيجة حالة اللاوعي، هناك قوانين ملزمة لاستخدام اللغة العربية فى كل المراسلات والمكاتبات والعناوين والبراندات حتى لو كانت أفرعاً لشركات عالمية، لكن الواقع يؤكد أن هناك شيئاً خطأ وخطأ كبيراً، تجد هذا فى شوارعنا ولافتات مرفوعة تخرج لسانها للغة العربية فى عقر دارها، مجمع اللغة يحاول ويحارب، وأنصار اللغة وجمهورها يتحدث بخجل شديد عن اللغة واهميتها، باتت اللغة غريبة وشاحبة وعجوزاً وقديمة ومهجورة بين أبنائها، رغم ذلك نحتفل ونحتفى جميعا بها فى يوم اللغة العربية لغة الضاد، قديما كانت هناك معارك سياسية بين الأحزاب والكتل السياسية والوطنية عن قضية «التعريب» لكل العلوم حتى الهندسة والطب، اليوم نواجه حالة من التغريب والابتعاد عن لغتنا التى هى عنوان ووعاء الهوية، حضارتنا العربية تستحق الفخر بها والاهتمام بمكوناتها، لكن هذا الاهتمام لا يكفى ان يكون بين النخب وبين حراس اللغة فى المراكز البحثية ودور التراث يجب ان ننتقل بهذا الاهتمام إلى الشارع حيث المحلات والكافيهات والشركات والصحف والسوشيال ميديا، إلى المدارس والجامعات ومراكز البحوث وكذلك الدراما والفن والصحافة والإعلام، لغة الضاد فى مأزق شديد وبعد سنوات ستندثر اللغة وستصبح أكثر غربة والحديث بها أكثر غرابة، أتصور ان الحوار الوطنى فى جولته التالية يجب أن يضع خطة عاجلة قوامها التشريع الحاسم للحفاظ على هذه اللغة التى تمثل سياجا منيعا للأمن القومى العربى عموما والمصرى خصوصا، يا سادة هناك عواصم ومدن عربية لا تكاد تسمع فيها اللغة العربية على الإطلاق، لابد من وقفة حاسمة وجادة ومجردة، فاللغة ليست مجرد لغة نتحدث بها وإنما اللغة هى الهوية والحضارة وكذلك الأمن القومى فى أسمى معانيه ومفرداته.