دعا السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى أئمة الأوقاف الجدد عقب انتهائهم من دورة تدريبية مدتها 6 أشهر بالأكاديمية العسكرية إلى ضرورة الاقتداء بمنهجية العلماء البارزين فى الفكر الإسلامى والإنسانى على السواء، وضرب الرئيس السيسى مثلا بالعالم المصرى الصعيدى جلال الدين السيوطي.. ومنذ إشارة الرئيس السيسى إلى الإمام السيوطى قامت وسائل الإعلام الإليكترونية بالتقاط خيوط حول شخصية الإمام السيوطى ممثلة فى الميلاد والوفاة وما بينهما، دون بحث حول منهجية الرسالة التى يحرص الرئيس السيسى أن يتعلمها الأئمة والدعاة من رموز الفكر الإسلامى أمثال الإمام السيوطي.. وقد ذَكَرَ الرئيس السيسى أن الإمام السيوطى قدّم للأمة «مساهمة استثنائية من خلال تأليف 1164 كتابًا خلال حياته» بما يمثل دعوة من الرئيس السيسى ورسالة فى ذات الوقت للأئمة الجدد فى التحَلِّى بسعة الاطلاع والتعمق فى مختلف العلوم الشرعية والإنسانية على حد سواء، والاقتداءً بأعلام الفكر الإسلامى الموسوعيين، فلا جدال أن امتلاك عقلية موسوعية يتيح للداعية فهم الواقع المركّب وتحليل تحدياته بوعى وحكمة
يعد الإمام جلال الدين السيوطى من أشهر المفسرين والفقهاء وأغزرهم إنتاجا، وجاء مولده فى أسيوط ليلة الأحد غرة شهر رجب الموافق عام 1445م، وكان والده من العلماء الصالحين ذوى المكانة العلمية الرفيعة، وقد تُوفِّى والد السيوطى وهو فى السادسة من عُمره، فنشأ يتيمًا، واتجه إلى حفظ القرآن الكريم، وأتَّم حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب فى تلك السن المبكرة مثل: العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك؛ فاتسعت مداركه، وزادت معارفه، وتلك المعانى تستلزم من الدعاة أن يتسلحوا بالهمة العالية فى طلب العلوم وألا يركنوا إلى العوارض والتعلل بالحواجز التى يمكن تجاوزها بالإرادة، وأن ينقلوا نفحات تلك السيرة العطرة لتلامذة المسجد والشارع وأن يحملوا تلك المبادئ إلى متابعيهم بالمساجد وعلى صفحات السوشيال ميديا التى تدربوا على التعامل معها فى تدريب الأكاديمية العسكرية، فلا يجب أن ننكر معطيات العصر الحديث، بل علينا الإفادة منها فى إبلاغ الرسالة، فالإسلام لا يعادى الحداثة بل ينتقى منها ما يسهم فى بناء الإنسان والأوطان.
ومن جملة الملامح فى شخصية الإمام السيوطى حالة الوفاء التى وجدها عقب وفاة والده، حيث أصبح محل عناية ورعاية عدد من العلماء رفاق أبيه لدرجة أن بعضهم تولى أمر الوصاية عليه، وهو «الكمال ابن الهمام الحنفي» أحد كبار فقهاء عصره، وقد تأثر به السيوطى تأثرًا كبيرًا.
كما تحدثنا شخصية الإمام السيوطى عن عظمة المرأة المصرية التى حرصت على تحمل المسئولية بشجاعة عقب وفاة زوجها حيث اكملت الرحلة فى تعليم ولدها حتى صار إماما فى العلوم والمعارف ما يفرض على الأسرة ضرورة إعادة النظر فى أساليب التربية للأبناء بما يساعدهم على الاستعداد لمواجهة أعاصير الحياة بثبات دون خوف أو قلق وعدم ترك الأبناء لعوالم السوشيال ميديا الخفية التى تسلب منهم العزم والعزيمة،خاصة إذا عرفنا أن الإمام السيوطى قام بتأليف أول كتاب وهو فى سن الــ17، وهو كتاب «شرح الاستعاذة والبسملة»، كما يزخر تاريخ العلماء وقتها بمدى التسامح والتصالح النفسى حيث أثنى العلماء والمشايخ الكبار على المجهود العلمى الذى حققه الشاب السيوطي، وهذا ما تحقق فى إشادة الشيخ علم الدين البلقيني، وكتب مدحا مطولا على كتاب تلميذه، وهذه الأجواء الخالية من الاحقاد والأضغان جعلت الإمام السيوطى واسع العلم غزير المعرفة؛ قال عن نفسه:» قد رُزقتُ -ولله الحمد- التبحر فى سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعانى والبيان والبديع»إضافةً إلى أصول الفقه والجدل والتصريف، والإِنشاء والفرائض والقراءات التى تعلمها بنفسه، والطب، وكان الإمام السيوطى شديد الوفاء والمنهجية فكان لا يجلس سوى إلى شيخ واحد يختاره بعناية ولا يغادره طيلة حياته، فإذا مات انتقل إلى غيره.
وسوف نقف قليلا لندرك حقيقة الرسالة التى أراد الرئيس السيسى أن يجعلها فى أذهان الأئمة والدعاة وأن يفيد منها الواعظات أيضا حتى تعلم المرأة المصرية أنها يجب أن تنهض سريعا إلى سابق عهدها وتحقق أمجاد السابقات، فقد أورد المؤرخون أن الإمام السيوطى قد تلقى علومه على يد من النساء اللاتى بلغن الغاية فى العلم، منهن «آسية بنت جار الله بن صالح الطبري»، و»كمالية بنت عبد الله بن محمد الأصفهاني»، و»أم هانئ بنت الحافظ تقى الدين محمد بن محمد بن فهد المكي»، و»خديجة بنت فرج الزيلعي»، وغيرهن كثر، وهنا ملمح إضافى فى وسطية الإسلام، وبمثابة رد على أصحاب اليمين ممن يريدون للمرأة أن تكون بمعزل عن مجتمعها، وكذلك أصحاب الشمال الذين يريدونها سلعة تجارية ويفقدونها عفافها وعفتها.
ونعاود الوقوف أمام أبرز الدروس المستفادة من شخصية الإمام السيوطى الذى جعل علمه وفكره مُسَخرا فى خدمة وطنه ومحبة بلده حيث جمع الإمام السيوطى النصوص الشرعية التى ذكرت مصر فى مؤلف بعنوان «حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة»، كما وردت مصر فى القرآن 35 مرة بما يدل على مكانتها؛ وأنها محفوفة بالوعد الإلهى فى الحفظ، وتجاوز التحديات وتخطى العقبات، وأنها عبر تاريخها صخرة فى وجه أطماع المعتدين وأحقاد المجرمين.
ولأن بحر الإمام السيوطى زاخر بالمبادئ والأخلاق التى تجعلنا ندرك مدى محبته لرسالته ومعارفه عفيف النفس لدرجة أنه كان يرفض الهدايا والعطايا، وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته ويعرضون عليه الأموال النَّفيسة فيردها، وأهدى إليه السلطان الغورى خادما وألف دينار، فقام بإعادة الألف دينار وأعتق الخادم، وقال لقاصد السلطان: لا تعُدْ تأتينا بهدية قطُّ؛ فإن الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك، وهذا درس مهم يجب أن يسعى الدعاة إلى تبصير الشباب به خاصة أنهم مقبلون على الدنيا فى ظل مغريات جعلت الكثير من الشباب يهملون العلوم والاعمال النافعة بحثا عن الشهرة ولو على حساب المبادئ والأخلاق.
دعونا نقف قليلا عند منهج الإمام السيوطى فى كتابة التاريخ، حيث كان للسيوطى رضى الله عنه منهجا فى بحثه التاريخي، فقد كان حريصًا على ذكر المصادر التى أخذ عنها معلوماته، وهذه النقطة هى أبرز الدروس التى يجب أن يتعلمها الدعاة والإعلاميون وكافة أطياف المجتمع لأن الكلمة أمانة والنقل مسئولية سوف يحاسب عليه صاحبه، وهذا ينقلنا إلى خطورة الشائعات التى أصبحت بمثابة السوس الذى ينخر فى جسد الأمة ويهدد حاضرها ومستقبلها.
وبعد رحلة من العطاء العلمى والفكرى أصيب الإمام السيوطى رضى الله عنه بورم شديد فى ذراعه اليسري، فمكث سبعة أيام، وتُوُفِّى رحمه الله ليلة الجمعة 17 من أكتوبر عام 1505م عن إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وثمانية عشر يومًا، وعند احتضاره كان يقرأ سورة «يس».