أرشد الطبيب عن تاريخ ميلاده الحقيقى.. وارتبط بالشعر فى كل مراحل حياته
اتسمت مواقفه الوطنية بالبصيرة وبعد النظر
ألقى محاضرة تاريخية فى نقابة الصحفيين كشف فيها بالدليل والبرهان أن اليهود ليسوا شعب الله المختار الآن
توفيت والدته بعد ميلاده بأيام فتولت نساء القرية إرضاعه.. وكان يقول:
أنا مسيحى تجرى فى عروقى «دماء مسلمة»
ظاهرة سياسية ثقافية فريدة.. بدأ حياته راهبًا متوحدًا وتفاعل مع قضايا المجتمع وترك إرثا ضخمًا من التعليم
101 عام مرت على ميلاد البابا شنوده الثالث، وما بين الميلاد فى 3 أغسطس 1923، والرحيل فى 17 مارس 2012 جرت مياه كثيرة فى شرايين الحياة بمصر، كان البابا شنوده شاهدًا عليها فى حين، ومشاركا فيها ومتفاعلاً معها فى أحيان أخرى، وتبقى قصة حياته – 89 عاما – ثرية مليئة بالكثير من الدروس والحكم، ولم لا؟.. وهو الرجل الذى نذر حياته لخدمة الله والوطن وكنيسته العريقة حتى استحق أن يُلقب باسم «بابا العرب».
البابا شنوده الثالث يمثل محطة تاريخية لها ملامحها التى لا يمكن أن تغيب عن ذاكرة الوطن أو ذاكرة الكنيسة سواء بسواء، مما جعله مؤهلاً وبجدارة ليكون من الوجوه التى لا تغيب عن الذاكرة الوطنية المصرية مهما مرت السنوات. لأنه كان يجمع من الصفات ما قد يتصور البعض استحالة أن تجتمع فى شخص واحد، فهو الراهب الناسك الزاهد المتعبد المتوحد، وهو البابا المعلم الذى يجوب العالم شرقا وغربا ناشرًا لكلمة الحق متصديًا لكل البدع والهرطقات الدخيلة، وهو رجل الدولة الذى يدرك حقائق التاريخ والجغرافيا وأبعاد السياسة فتشكلت رؤاه بنضج بعيدًا عن أى أهواء أو ضغوط من هنا أو هناك، وهو فى ذات الوقت الأديب والشاعر والفيلسوف والصحفى الذى يكتب المقالات، ويشاء القدر أن تكون جريدة «الجمهورية» هى المنبر الصحفى الذى فضله البابا واختاره ليقدم من خلاله إطلالته الفكرية على المجتمع، ويحمل من خلاله عضوية نقابة الصحفيين.
الشاهد فى كل ما سبق أننا أمام «حالة إنسانية سياسية ثقافية» فريدة من نوعها.. اسمها البابا شنوده الثالث.
البداية فى أسيوط
فى الثالث من أغسطس 1923 ولد «نظير جيد روفائيل» «البابا شنوده الثالث فيما بعد» فى قرية سلام بمحافظة أسيوط، وقد توفيت والدته بعد ولادته مباشرة، فتولت نساء القرية إرضاعه، ومن بينهن السيدة زينب سيد درويش، ولذلك كان البابا يقول: «أنا مسيحى تجرى فى عروقى دماء مسلمة».
تولى أخوة البابا رعايته، وتعددت أماكن إقامته بين القاهرة والإسكندرية والقليوبية، وعندما وصل إلى سن الإلزام لدخول المدرسة لم تكن له شهادة ميلاد، مما اضطره للعودة إلى قرية سلام لاستخراج شهادة ميلاد بعد تسنينه، والطريف أنه أرشد الطبيب إلى يوم مولده بدقة وقال له: يا دكتور اكتبنى بسنى الحقيقى، فأنا ولدت قبل وفاة أمى بثلاثة أيام، فاستخرج له الطبيب شهادة ميلاد صحيحة بتاريخ 3 أغسطس 1923.
ظهرت المواهب الأدبية للبابا شنوده أثناء دراسته فى المرحلة الثانوية، وعن تلك المرحلة يقول البابا: حينما انتقلت إلى التعليم الثانوى كنت من الناحية الفكرية والعقلية أقوى من زملائى جميعًا، وهذا ساعدنى فى التفوق، فكنت تقريبًا الأول باستمرار فى التعليم الثانوى، وكنت قويا فى الرياضيات والعلوم، ودخلت توجيهى قسم علمى، ثم وجدت أنها لا تتناسب مع هدفى فى الحياة، فبعد نصف السنة حولت إلى توجيهى أدبى، وفى المرحلة الثانوية تعلمت الشعر.. كنت فى الأول أكتب شعرًا لا أستطيع أو أجرؤ أن أسميه شعرًا، لأننى لم أكن أعرف أوزانه فى ذلك الحين، إلى أن عرفت ذلك سنة 1939 فى أجازة سنة ثالثة ثانوى عن طريق كتاب اسمه «أهدى سبيل إلى علمى الخليل».. فدرست قواعد الشعر، ودرست علمى الخليل والعروض والقافية، ودرست البحور والأوزان والتفاعيل والسبب والوتد والزحاف والعلة، وما يدخل على التفاعيل من تغييرات، ومن أول يوم قرأت فيه استطعت أن أكتب بيتًا من الشعر موزونا تماما كنت أذهب إلى دار الكتب من الصباح وأرجع الظهر، وأذهب إليها عند الظهر وأرجع فى المساء، لأنه لم يكن معى إلا الكتاب الذى استعيره من دار الكتب والتى كانت فى باب الخلق فى ذلك الحين.
مسار جديد واسم جديد
رغم أن حياة الشاب نظير جيد كانت مليئة بما يكفى من النشاط والخدمة فى الكنيسة إلا أن كل هذا لم يكن ليروى ظمأه ويلبى رغبته فى الاقتراب من الله أكثر وأكثر، فكان قراره الذى غير مسار حياته وأعاد تشكيله على نحو جذرى لاحقا، وهو قرار الالتحاق بالرهبنة، وكان يوم الأحد الموافق 18 يوليو 1954 شاهدًا على ذلك، ففى ذلك اليوم تخلى الشاب «نظير» بارادته عن اسمه المدون فى شهادة الميلاد منذ مجيئه للدنيا، ليحمل اعتبارا من ذلك التاريخ اسما جديدا وهو الراهب أنطونيوس السريانى – نسبة إلى دير السيدة العذراء بالسريان – ليدير ظهره للدنيا ويبدأ رحلة جديدة فى حياته قادته بعد 17 عامًا ليصبح البابا رقم 117 فى تاريخ الكنيسة.
غير أن البابا الذى ترك العالم وهو يتجه صوب الرهبنة لم يترك معه أشعاره التى اتخذت منحى جديدًا يعبر عن تلك المرحلة الجديدة من حياته وكان من أشهر القصائد التى كتبها وهو يتجه صوب أسوار الدير قصية «سائح» والتى جاء فيها:
أنا فى البيداء وحدى
ليس لى شأن بغيرى
لى جحر فى شقوق التل
قد أخفيت جحرى
وسأمضى منه يومًا
ساكنًا ما لست أدرى
سائحًا اجتاز فى الصحراء
من قفر لقفر
ليس لى دير فكل البيد
والآكام ديرى
لا ولا سور فلن يرتاح
للأسوار فكرى
أنا طير هائم فى الجو
لم أشغف بوكر
عشق البابا شنوده الوحدة وتغنى بها فى أشعاره، فهو لم يكن وحيدًا، بل كان يستأنس بالوجود مع الله، غير أن خيوط القدر كانت ترسم له مسارًا مغايرًا لما أراده لنفسه بعد أن اختار مغارة تبعد عن الدير نحو 12 كيلو مترًا ليعود مرة أخرى لحياة الأضواء.
أسقفا للتعليم
ففى ذات يوم جاءه رئيس الدير يقف أمامه فى المغارة التى يتوحد فيها وقال له: البابا كيرلس يريدك فى مشكلة قانونية خاصة بالكنيسة ولا يوجد غيرك لحلها.
– فقال له: أنا لا أعرف من قوانين الكنيسة إلا قليلا
– قال رئيس الدير: لا بابا قال مافيش غيرك يحلها
– رد الراهب أنطونيوس «طيب هاروح للبابا بالجلابية والشبشب؟»
– قال رئيس الدير: سندبر لك ملابس
فأخذ حذاء أحد الرهبان وجلابية راهب آخر ولبسها الراهب أنطونيوس وتوجه للبابا كيرلس
– وخلال جلسة قصيرة معه سأله: هل تعرف ماذا قال مار افرام السريانى عن التواضع؟
– فأجابه بأن التواضع من صفات الله.
وعند المغادرة وأثناء انصراف الراهب أنطونيوس وجد رأسه فى قبضة البابا كيرلس السادس وهو يقول له: رسمناك يا أنطونيوس باسم شنوده أسقفا للتعليم والكلية الاكليريكية والمعاهد الدينية.
ومنذ ذلك الحين حمل الراهب اسما جديدا وهو الأنبا شنوده أسقف التعليم.
البابا الـ 117
وعقب رحيل البابا كيرلس السادس سنة 1971، بدأت الكنيسة فى إجراءات اختيار البابا الجديد، وبعد سلسلة من الإجراءات والتصفيات أسفرت نتيجة فرز الأصوات عن حصول كل من:
– الأنبا صموئيل: 440 صوتا
– الأنبا شنوده: 434 صوتا
– القمص تيموثاوس المقارى: 312 صوتا
وفى يوم الأحد 31 أكتوبر 1971 أقيم القداس وأجريت القرعة الهيكلية التى أسفرت عن اختيار الأنبا شنوده ليصبح هو البابا شنوده الثالث البابا الـ 117 للكنيسة القبطية، حيث امتدت فترة قيادته للكنيسة ما يقرب من 41 سنة حتى 17 مارس 2012.
بابا العرب
جاءت فترة قيادة البابا شنوده للكنيسة فى مراحل شهدت الكثير من التوتر، سواء فى بداية عصر الرئيس الراحل أنور السادات، أوفى نهايتها، وكانت زيارة القدس واحدة من أكبر نقاط الخلاف التى أحدثت شرخًا بين السادات والبابا شنوده.
بسبب رفض البابا زيارة الأماكن المقدسة فى هذا التوقيت وظل الخلااف مستمر وتصاعد لكن رغم كل هذا لم ينس البابا للسادات أنه قائد النصر وكان يقول دائما يكفى أنه قاد معركة النصر واسترداد الأرض
موهبة صحفية
تمتع البابا شنوده بالحكمة والموهبة الصحفية، فكتب الكثير من المقالات التعليمية فى الجرائد والمجلات، مما دفع حافظ محمود نقيب الصحفيين الراحل لأن يطلب من البابا شنوده الانضمام لنقابة الصحفيين «انتساب» عن جريدة «الجمهورية» حيث كان ينشر مقالاته باستمرار.
ومما يذكر فى مواقف البابا شنوده الوطنية حين ألقى محاضرته الشهيرة بنقابة الصحفيين عن «المسيحية والصهيونية» فى 26 يونيه 1965، وأكد فيها أن اليهود لم يعودوا شعب الله المختار، باعتبار أنهم الشعب الوحيد الذى كان يعرف الله حق المعرفة، ولكن بعد نزول الأديان السماوية، أصبح من يعرفون الله الحقيقى كثيرين.
كتب البابا أكثر من 85 كتابا روحيا ولاهوتيا مبسطا يستفيد منه العالم والشاب والمواطن محدود الثقافة، وقد تمت ترجمة العديد منها الى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والبولندية.
كثيرة هى المواقف التى لا تتسع لها أضعاف هذه المساحة للحديث عن البابا شنوده الثالث، حيث تمر اليوم 101 عام على ميلاده، و70 عاما على التحاقه بالرهبنة.. وسيبقى البابا شنوده علامة فارقة فى تاريخ الكنيسة والوطن، ورمزا وطنيًا قوميًا، ونموذجًا للحكمة والاعتدال ومحبة الوطن، يتوقف أمامه تاريخ الوطن والكنيسة طويلا.
ويكفى مواقفه الرافضة تماما لأى تدخل خارجى تحت زعم دعم الأقباط يقول «مشاكلنا نحلها داخليا»
كما كانت مقولته الشهيرة تلخيص لوطنيته «مصر ليست وطن نعيش فيه بل وطن يعيش فينا»
خايف.. على مصر
شريف نبيه
أبدى البابا شنودة قلقه الشديد من الحراك الملتهب فى الشارع المصرى خلال أحداث 25 يناير 2011.
يؤكد المقربون من البابا انه لم يكن راضيا عما يجرى فى مصر خلال هذه الأحداث وكان يردد.. »أنا خايف على مصر«.
وذات مرة سأله أحد الأساقفة عن رأيه فيما يحدث من وقائع متلاحقة.. تظاهرات بالشوارع.. اضرابات بالمصانع والمصالح.
كان خوفه نابعا من شعوره بأصابع خفية – خارجية – تحرك أمواج البشر والجماهير المحتشدة بالشوارع.. خاصة ان الرئيس الأسبق حسنى مبارك كان قد اتصل به فى بداية الأحداث وأكد له انه لن ينتوى تجديد ترشحه للرئاسة ولا يؤيد فكرة توريث ابنه الحكم وكان البابا يؤيد انتظار انقضاء مدته لتتم انتخابات جديدة ليس فيها مبارك ولا ابنه.
وذات مرة سأله الأنبا مرقس وكان آنذاك أسقف شبرا الخيمة عن رأيه فى أحداث 25 يناير.. فأكد له ان ما يخشاه أن يأتى الاخوان فى سدة الحكم التالية لعهد مبارك.. وعندئذ لن يتمكن الأقباط من بناء كنيسة واحدة ومع الأحداث.. أكد قداسة البابا ان 25 يناير استغلها الاخوان لنشر الفوضى وجنى ثمار حماس الشباب الحالمين بمستقبل أفضل لمصر، إلا ان هذه الأحلام سرقتها جماعة الاخوان الإرهابية.
وكان البابا يؤمن بأن الجيش المصرى جيش وطنى لن يترك مصر فى يد الجماعة الارهابية وقد خرج بالفعل الشعب المصرى بالملايين فى حماية جيشه وشرطته ليطلب رحيل التنظيم الإرهابى التى جاءت لتخريب مصر.. وقد حدث ما توقعه البابا يوم 30 يونية عام 2013 وتخلصت مصر نهائياً من كابوس السنة السوداء التى قفزت فيها الجماعة الظلامية فوق السلطة وكادت تضع كلمة »النهاية« لبلادنا المحروسة بإذن الله.
تواريخ ومحطات
إيمان إبراهيم
> 3 أغسطس 1923
الميلاد فى أسيوط باسم نظير جيد.
> 1939
بدأ الخدمة فى مدارس التربية الكنسية بكنيسة العذراء بمهمشة بالقاهرة.
> 1947
حصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ – كلية الآداب – جامعة فؤاد الأول »جامعة القاهرة حاليًا«، ثم تخرج فى كلية الضباط الاحتياط.
> 18 يوليو 1954
التحق بمجال الرهبنة فى دير السريان.
> 1959
اختاره البابا كيرلس السادس سكرتيرا له.
> 20 سبتمبر 1962
رسامته أسقفا للتعليم باسم الأنبا شنودة.
> 1965
أصدر العدد الأول من مجلة «الكرازة».
> 1966
عضوا بنقابة الصحفيين.
> 14 نوفمبر 1971
تجليسه على الكرسى البابوى ليصبح البابا الـ 117 فى تاريخ الكنيسة.
> فبراير 1991
رئيسًا لمجلس الكنائس العالمى عن الارثوذكس الشرقيين والشرق الأوسط.
> 8 نوفمبر 1994
رئيسًا لمجلس كنائس الشرق الأوسط عن عائلة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية وتجدد انتخابه لمرة ثانية سنة 1998 وللمرة الثالثة 2003.
> 1998
قام برسامة أول بطريرك لإريتريا وهو أبونا فيلبس، ثم قام برسامة أبونا أنطونيوس الأول بطريركا سنة 2004.
> 15 فبراير 2011
أصدرت اللجنة الدائمة» للمجمع المقدس برئاسة البابا شنوده بيانًا تؤكد فيه تأييدها لثورة 25 يناير 2011، وأشادت بدور الجيش والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
> 17 مارس 2012
رحل عن العالم بعد فترة 40 عاما و3 أشهر و4 أيام قضاها بابا للكنيسة المصرية.