في زمنٍ كَثُرت فيه الأجهزةُ و الآلاتُ وقلَّ فيه الاستماعُ والإنصاتُ، شاءَ اللهُ أنْ تبدأَ معاناةُ زوجي مع آلامٍ شديدةٍ في جهازهِ الهضمي، وبعدَ نوباتِ ألمٍ متكررةٍ وإجراءِ الفحوصاتِ اللازمةِ قررَ الطبيبُ المعالجُ استئصالَ المرارةِ على اعتبارِ هذا الجزءِ الحساسِ من الجسمِ لهُ علاقةٌ شهيرةٌ مع آلام البطنِ الحادةِ و يتأثرُ كثيراً بالمشاعرِ و الأحاسيسِ فالأوْلَى إزالة هذا الجزء المشاغب قبل فقعهِ من جسدِ هذا الرجلِ الذي يعيشُ في زمنِ التغيراتِ المناخيةِ و التوتراتِ النفسيةِ!
وقد تمَّ بالفعل إجراءُ العمليةِ و إزالةُ المرارةِ إلا أَنَّ نوباتِ الألمِ لم تغبْ كثيراً بل عادتْ ثانيةً بقوةٍ أكبر وتواترٍ أكثر. وكنا نضطرُ مع كلِّ نوبةِ ألمٍ أن نذهبَ به إلى المشافي و نقوم بعمل الفحوصاتِ اللازمةِ بل و إعادةِ الاختباراتِ القديمةِ لعلَّ و عسى أَنْ يُعرَفَ السببُ و يذهبَ العجبُ!
وأصبحنا زبائنَ دائمين في دهاليزِ المشافي و أقسامِ الطوارئ ما نلبثُ أن نغادرَها حتى نعودَ ثانيةً ومع نفسِ الآلامِ التي لا تهدأُ إلا تحت تأثيرِ المسكناتِ و المهدئاتِ القوية.
وهنا لم يبقَ أمامَ بعضُ الأطباءِ إلا أَنْ يُفسروا الأمرَ بأنه قد يكون ألماُ نفسيا مبالغاً به أو ربما رغبةً في تعاطي المهدئاتِ القويةِ في أقسامِ الطوارئ أو أنَّ زوجي قد اعتراهُ بعضُ السُّوءِ من عينٍ أو حسدٍ! كلُّ هذهِ الاتهاماتِ أو التبريراتِ تلقاها زوجي لأنَّ الطرقَ الروتينيةَ في تشخيصِ المرضِ لمْ تكشفْ السببَ، فجميعُ الاختباراتِ سليمةٌ و لكنَّ الجسدَ ما زالَ يعاني.
واستمرتْ هذه المعاناةُ شهوراً عديدةً و نحنُ ندورُ في حلقةٍ مفرغةٍ كأننا أمامَ آلةِ التعلٌمِ الحديثةِ أو ما يطلقُ عليه (Machine Learning ) ML و هو نوعٌ من انواعِ الذكاءِ الاصطناعي الطبي في عصرنا الحديث بحيثُ ندخلُ لهُ البياناتِ والتي هي نتائج التحاليلِ المخبريةِ و الصورِ الشعاعيةِ ليُعطينا المخرجاتِ بأنها سليمةٌ بلا روحٍ أو حلولٍ.
ولكننا بالتأكيد كنا نحتاج إلى أكثر من ذلك فقد كنا بحاجةٍ ماسةٍ إلى ما يُعرف بالذكاءِ العاطفي و المهني.و الذي أُولى أَبجدياته أن نصدًقَ المريضَو نستمعَ إليه مراراً و تكراراً لعلَّنا نجدُ في تفاصيلِ قصتهِ ما يُخرجُنا من نمطيةِ التشخيصِ و يُرشدنا إلى العلاجِ دونَ أن ننشغلَ بايجادِ مبرراتٍ لعجزنا عن مساعدتهِ و انهاءِ معاناتِه.
ولأنَّ كلٌّ بمقدارٍ و عندما يحينُ الشفاءُ تتهيأُ الأسبابُ و أَوَّلُها الدعاءُ و حسنُ الظنِّ باللهِ الذي سخرَ لنا طبيباً شاباً في مقتبلِ العُمرِ استطاعَ أن يُشخصَ مرضَ زوجي بناءً على نوعِ الدواءِ المهدئ الذي كانَ يتجاوبُ معه لتسكينِ ألمهِ و الذي عادةً يكونُ فعالاً مع الآلامِ العضليةِ بينما لاحظَ أن الألمَ لا يتجاوبُ بل ويزدادُ مع أنواعِ المهدئاتِ الأخرى، و هذا يعتبرُ طبقاً لبعضِ الأبحاثِ الحديثةِ تشخيصاً تفريقياً إلى ما يُعرفُ بانسدادِ العضلةِ العاصرةِ الكبديةِ او ما يُسمى بعضلةِ اُودي.
وبناءً على هذا التشخيص السريري تمَّ اجراءُ المنظارِ الجراحي كحلٍ استقصائيٍّ وعلاجيٍّ في آنٍ واحدٍ، ليَجدوا أنَّ هذه العضلة قد أُصيبت بتليفٍ تامٍ مما يفسرُ عدمَ وضوحِها وتمايزها عن الأنسجةِ الطبيعيةِ المحيطةِ بها حتى بأدقِّ أنواعِ الصورِ الشعاعيةِ كالتصويرِ الطبقي المحوري، و إنْ كانَ هذا نادرَ الحدوثِ و لا يتجاوزُ نسبةَ حدوثهِ خمسة بالمئةِ إلا أنَّه و لسببٍ لا يعلمهُ إلا اللهُ قد كانت حالةُ زوجي من هذه الندرةِ.
و بعدَ هذا التداخل العلاجي تماثلَ زوجي للشفاءِ بفضلِ اللهِ لتنتهي سنةٌ كاملةٌ من المعاناةِ بكل تفاصيلها القاسية من ألمٍ وخوفٍ و عجزٍ و حيرةٍ.
ولعلَّ السببَ الأَهمَّ في تأخرِ الشفاءِ كانَ عدمُ الإصغاءِ الكاملِ لشكوى المريضِ الذي كان يعاني من آلامٍ شديدةٍ في حين أنَّ نتائجَ فحوصاتِه المخبريةِ والشعاعيةِ كانت تبدو سليمةً و هذا يناقضُ المألوفَ بلْ و يجعلُ الطبيبَ المعالجَ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع مخزونهِ العلمي و وازعهِ الأخلاقي.
هذه الفضيلةُ التي لا تستطيعُ جميعُ ربوتاتِ الذكاءِ الاصطناعي في العالمِ أنْ تُنافسُهاأو تُضاهيها فقد كرّمَ اللهُ بني آدمَ بالعقلِ وآتى بعضهمُ الحكمةَ لكي يتمكنَ المرءُ اللّبيبُ ذو العقلِ الرشيدِ من فعلَِ ما ينبغي على الوجهِ الذي ينبغي و هذا و اللهِ تمامُ الفطنةِ وكفى به خيراً كثيراً.
شكراً لكلِّ من ساندنا ووقفَ معنا في محنتنا و شكراً لكلِّ طبيبٍ مجتهدٍ و مخلصٍ في عملهِ و شكراً لذلكَ الطبيبِ الشابِّ الذي شخَّصَ مرضَ زوجي وصدَّقَهُ كثيرا وكيفَ لا و هو والدهُ و يحبُّهُ كثيراً كثيراً.و الشكرُ الأكبرُ لزوجي الذي صبرَ واحتسبَ ولسانُ حالهِ يقولُ:(ما بالُ الطبيبُ لا يُصدِّقُني و قد اشتدَّ الألمُ و تعالتِ الآهاتُ. فمالي غيركَ يا إلهي تسمعني فإنّكَ تعلمُ ما يجهلُ العبادُ. وَ إنِّي و اللهِ قد لذتُ بكَ و دَعوتُكَ في جوفِ الليلِ رغَّابُ. فسخر لي يا ربي منْ يداويني و اكتبْ على يدهِ الشفاء).