لو سألت أى خبير اقتصادى عن الملف الأصعب فى مسيرة الاقتصاد المصرى على مدار الخمسين عاما الماضية سيقول لك بلا تردد هو ملف الدعم.
ولو طلبت توضيحاً أو سألت عن السبب سيقول لأن هذا الملف يعد أحد الأسباب الرئيسية التى أدت إلى تفاقم العجز فى الموازنة العامة للدولة نظرا لتزايد التكلفة التى تتحملها الدولة فى الفرق بين السعر الحقيقى للسلعة أو الخدمة المدعمة والسعر الذى تباع أو تقدم به للمواطن.
وإن طلبت توضيحاً أكثر سيقول أن عدم الاقتراب من هذا الملف طوال هذه السنوات جعل مشكلته تتفاقم أكثر وأكثر حتى أصبح السكوت عنه يهدد الموازنة العامة للدولة بالدرجة التى تعجز فيها عن تلبية المتطلبات الرئيسية الأخرى للمواطنين.
وبصراحته المعروفة وسياسته الحكيمة وحرصه على المصلحة العليا للبلاد، ما كان من الرئيس عبدالفتاح السيسى إلا أن طالب الحكومة بفتح هذا الملف ومصارحة الشعب واتباع سياسة المكاشفة وشرح الحقائق وتوضيحها، ووضع الحلول الناجعة للمشكلات بدلاً من اتباع سياسة المسكنات التى يمكن أن تؤدى إلى مضاعفات لا يحمد عقباها ويدفع ثمنها فى النهاية المواطن نفسه.
وقبل الخوض فى كيفية تعامل حكومة الدكتور مصطفى مدبولى مع هذا الملف الشائك، يجب أن نذكر مجموعة من الحقائق لا يمكن لأى منصف أن ينكرها، ولا يمكن لأى بصير أن يتجاهلها، وهي:
ـ أن الدولة لم تتخل يوماً عن مساندة محدودى الدخل، وأن مخصصات الدعم فى الموازنة العامة للدولة لم تتراجع، بل تزيد من عام لآخر وفقاً لما هو متاح وما تستدعيه الضرورة.
ـ أن المبالغ المخصصة للدعم فى الموازنة لم تكن تصل كاملة لمن يستحقها، بل كانت تصل فى بعض الأحيان للطبقات القادرة على حساب الطبقات الفقيرة، وخير مثال على ذلك دعم البنزين الذى كان يستفيد منه أصحاب السيارات الفارهة والسفارات والقنصليات، على حساب المواطن البسيط وكذلك دعم الكهرباء الذى كان المستفيد الأكبر منه أصحاب المكيفات المركزية فى القصور والفيلات وليس المواطن محدود الدخل الذى لا يملك أكثر من مروحة.
ـ أن الدعم ليس اختراعاً مصرياً، بل هو أمر مطبق فى معظم دول العالم، بما فيها الدول الغنية والمتقدمة، لكن الاختلاف يكون فى أسلوب إدارة الأموال المخصصة له، وكلما نجحت الدولة فى توصيله كاملاً لمن يستحق كان ذلك دليلاً على كفاءة الجهاز الإدارى للدولة ولصالح المواطن.
ـ إنه لايمكن لأى موازنة فى العالم أن تتحمل دعم السلع الأساسية والوقود والكهرباء والنقل والصحة والتعليم والإسكان وغيرها من السلع والخدمات دون نهاية أو بلا حدود.
ـ إن الأحداث العالمية والنزاعات والصراعات الإقليمية قد فرضت تحديات كبيرة على اقتصادات كل دول العالم، وأحدثت موجة تضخم عاتية، ألقت بأعباء ضخمة على الموازنة العامة لكل دولة لا يمكن تجاهلها وفرضت على كل الدول أن تغير من أولوياتها.
ولأن حديث الأرقام هو الأصدق، فإن مقارنة بسيطة بين أرقام الدعم فى الموازنة العامة فى مصر يوضح كيف تعاملت الدولة مع ملف الدعم خلال السنوات العشر الماضية.
الأرقام تقول إن مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية فى موازنة العام المالى الجارى 2025/2024، التى بدأ تطبيقها فى أول يوليو الحالى تبلغ 635.9 مليار جنيه مقارنة بـ 532.8 مليار جنيه للعام المالى السابق 2024/2023 بمعدل نمو 19.3٪، فى حين كان المخصص للدعم فى موازنة 2015/2014 حوالى 205 مليارات جنيه فقط.
والحقيقة تقول أيضاً إن أكثر من نصف إيرادات الدولة المتوقعة بالموازنة الجديدة للعام المالى المقبل 2025/2024، تم تخصيصها للإنفاق الاجتماعى على الدعم والحماية والاجتماعية والتنمية البشرية بمحوريها الصحة والتعليم وكله يذهب لدعم المواطن محدود الدخل والأسر الأكثر احتياجاً.
على رأس ملف الدعم يأتى رغيف الخبز الذى ظل سعره ثابتاً لأكثر من 30 عاماً رغم أنه خلال هذه الفترة شهد سعر القمح ارتفاعات متتالية، ورغم تحريك سعر الرغيف مؤخراً إلا أن الدولة مازالت تخصص له دعماً فى الموازنة الجديدة يصل إلى 125 مليار جنيه.
بينما يصل إجمالى الدعم السلعى بالموازنة الجديدة 298 مليار جنيه، منها: 134.2مليار جنيه لدعم السلع التموينية مقارنة بـ 127.7 مليار جنيه خلال العام المالى المنتهى فى 2024 بمعدل نمو سنوى 5.1٪.
ورغم تحريك الحكومة لسعر المواد البترولية الأسبوع الماضى بسبب الارتفاعات المتتالية فى الأسعار العالمية، فإن دعم هذه المواد مازال فى ازدياد حتى بلغ فى الموازنة الجديدة 154.5 مليار جنيه مقارنة بـ 119.4 مليار جنيه فى الموازنة السابقة بنسبة زيادة 29.4٪ أى أن تحريك الأسعار لم يقلل من الدعم، بل كل هدفه هو عدم قدرة الدولة على تحمل ما هو أكثر من ذلك فى ظل تزايد الاستهلاك المصرى من الوقود.
ولم تكتف الدولة بذلك بل خصصت فى الموازنة الجديدة 2.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء، ومليار جنيه لدعم شركات المياه، ودعم المزارعين بنحو 657 مليون جنيه بزيادة قدرها 20.7٪ عن العام المالى الحالي.
ولأن الدعم لايقتصر على السلع فقط، بل يمتد ليشمل الخدمات الاساسية، فقد خصصت الدولة فى الموازنة الجديدة 10.1 مليار جنيه لعلاج المواطنين على نفقة الدولة، و5مليارات جنيه لدعم الأدوية وألبان الأطفال، و3.3 مليار جنيه لدعم برامج التأمين الصحى لمختلف الشرائح المجتمعية، منها: «398 مليون جنيه للطلاب، و54 مليوناً للمرأة المعيلة و187 مليوناً للأطفال دون السن المدرسي»، فضلاً على 2.4 مليار جنيه لدعم التأمين الصحى الشامل لغير القادرين، و200 مليون جنيه لدعم التأمين الصحى لأصحاب معاش الضمان الاجتماعي.
كما تم أيضا تخصيص 2.5 مليار جنيه لدعم نقل الركاب ، و650 مليون جنيه لدعم اشتراكات الطلبة على خطوط السكك الحديدية ومترو الأنفاق، و550 مليون جنيه لدعم الامتيازات الممنوحة على أسعار ركوب «السكك الحديدية» و«مترو الأنفاق» لبعض الفئات المستحقة، و5.2 مليار جنيه لدعم الخطوط غير الاقتصادية بالسكك الحديدية.
ولم تكتف الدولة بهذا، بل خصصت 214.2 مليار جنيه بالموازنة الجديدة، مساهمة للتأمينات الاجتماعية لدعم نظام المعاشات وتنفيذًا لاتفاق فض التشابكات بما يضمن توفير السيولة المالية اللازمة لخدمة أصحاب المعاشات والمستحقين عنهم والمؤمن عليهم والوفاء بكامل الالتزامات تجاههم، فضلاً عن تخصيص 40 مليار جنيه لبرنامجى «تكافل وكرامة» و»معاش الضمان الاجتماعي»، بزيادة أكثر من ٩ مليارات جنيه عن موازنة العام المالى الحالي، وبنسبة نمو تبلغ 29٪، وزيادة دعم برامج الإسكان الاجتماعى فى الموازنة الجديدة بنسبة 16.5٪ ليصبح 11.9 مليار جنيه مقارنة بـ 10.2 مليار جنيه فى العام المالى الحالي، ودعم توصيل الغاز الطبيعى للمنازل بنحو 3.5 مليار جنيه.
كل هذه الارقام التى لاتكذب ولا تدعى بالباطل كما يحاول البعض، بل تعكس حرص الدولة على تقديم المساندة والدعم للمواطنين محدودى الدخل، وتؤكد أن الدولة لم تتخل أبدا عن القيام بدورها فى حماية الطبقات الفقيرة، رغم كل التحديات الصعبة والظروف العالمية الضخمة التى تحيط بالعالم كله.