لم يكن أحد فى العالم ينتظر من الولايات المتحدة، أن تفعل فى مجلس الأمن الدولي، غير ما فعلته الجمعة الماضية، حين حانت لحظة التصويت على مشروع القرار الخاص بمنح فلسطين صفة العضوية الكاملة ـ كدولة ـ فى الأمم المتحدة.
لقد استخدمت الولايات المتحدة «الفيتو» المعتاد لمنع صدور القرار رغم حصوله على الأغلبية الكاسحة من أصوات أعضاء المجلس الخمسة عشر.
قبل أيام من اتجاه السلطة الفلسطينية ـ بدعم من المجموعة العربية فى الأمم المتحدة ـ لطرح هذا المشروع على مجلس الأمن، أعلنت الولايات المتحدة رسميا، وصراحة، أن على الفلسطينيين ـ إذا أرادوا دولة ـ أن يدركوا أنه لا سبيل أمامهم لتحقيق ذلك سوى «المفاوضات المباشرة مع إسرائيل» وليس من خلال الأمم المتحدة.
وقبل إعلان هذا الموقف الأمريكي، كان رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو ـ قد استبق الجميع وأعلن أن قيام دولة فلسطينية مرفوض تماما، ولن تسمح به إسرائيل.
أى أن الولايات المتحدة تحيل ملف الدولة الفلسطينية، من ولاية المجتمع الدولى ممثلا فى الأمم المتحدة، إلى ولاية إسرائيل، التى ترفض قيام الدولة الفلسطينية من حيث المبدأ.
ولا جديد، لا فى الموقف الأمريكى ولا فى الموقف الإسرائيلي.. وكلاهما يتطابقان.
الولايات المتحدة، ومنذ بدء ما سمى بـ «عملية السلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل قبل ثلاثة عقود وقفت بضراوة ضد أن يكون للأمم المتحدة أى ولاية على القضية الفلسطينية، أو أى دور فعال فيها، وأن تكون الولاية ـ حصريا ـ لها ولإسرائيل من خلال المفاوضات المباشرة.
وقد أدى هذا التوجه إلى قتل عملية السلام فعليا، ووصول الفلسطينيين إلى حالة الاحباط التى فجرت فى النهاية «طوفان الأقصي» فى السابع من شهر أكتوبر الماضى وما بعده حتى الآن.
هذا التوجه الأمريكى الإسرائيلى يعمل ضد حركة التاريخ.
القضية الفلسطينية ظهرت على السطح مع نشأة الأمم المتحدة، وبين أروقتها، وكان ملفها واحدا من أهم الملفات التى طرحت على أجهزة المنظمة الدولية فور بدئها فى ممارسة مسئولياتها عن صيانة السلم والأمن الدوليين.
قيام إسرائيل نفسها كدولة كان بقرار من الأمم المتحدة كل الحقوق التى تقررت للشعب الفلسطينى على مدى ثلاثة ارباع قرن كانت بمقتضى قرارات صادرة عن الأمم المتحدة.
الدولة الفلسطينية ليست اختراعاً جديدا.. الامم المتحدة هى من اعترف للشعب الفلسطينى بحقه فى اقامة دولته المستقلة، ورسمت حدودها وهى حدود الرابع من يونيو 1967 وقامت بتسمية عاصمتها وهى القدس الشرقية.
الدولة الفلسطينية قائمة وحصلت على عضوية الامم المتحدة بصفة «مراقب» أى تتمتع بحقوق العضوية عدا حق التصويت.
رئيس السلطة الفلسطينية ــ محمود عباس، ومن قبله ياسر عرفات ــ يشارك باسم دولة فلسطين سنويا فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويلقى خطابا امامها، ويستقبل فى كل مرة استقبال الرؤساء.
للدولة الفلسطينية بمقتضى ذلك مندوب دائم فى المنظمة الدولية يحضر اجتماعاتها، وكذلك اجتماعات مجلس الامن التى تناقش اى امر يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو حاليا السفير رياض منصور، الذى القى فى اجتماع مجلس الامن الجمعة الماضية اقوى خطاب اربك المندوب الاسرائيلى وافقده اعصابه، وظهر ذلك فى المرات التى اتجهت الكاميرات إليه عندما نقل وقائع الجلسة.
والذى قد لا يعرفه البعض واعلنه وزير خارجيتنا ــ سامح شكرى فى مؤتمره الصحفى مع نظيره الايرلندى بالقاهرة هذا الاسبوع، ان عدد دول العالم التى اعترفت بالدولة الفلسطينية حتى الان بلغ مائة وخمس وثلاثين دولة، اى ما يقترب من نصاب ثلثى مجموعة اعضاد الامم المتحدة.
وهناك تيار قوى داخل الاتحاد الاوروبى يسعى بقيادة اسبانيا وايرلندا للوصول إلى توافق بين اكبر عدد من دول الاتحاد التى لم تعترف بعد بالدولة الفلسطينية لكى تعلن اعترافها.
وبالتأكيد سيحتاج الامر إلى جهد مصرى وعربى مضاعف مع الشركاء الدوليين المنصفين للقضية الفلسطينية للدفع فى هذا الاتجاه اليوم قبل الغد، استعدادا لنقل الطلب الفلسطينى العربى بمنح العضوية الكاملة لفلسطين فى الامم المتحدة إلى الجمعية العامة للمنظمة الدولية بعيدا عن حق الفيتو ليحصل هذا الطلب على اغلبية كاسحة لا يمكن لمجلس الامن غض الطرف عنها او تجاهلها.
عندئد ــ وعندئذ فقط ــ يمكن ان تكون هناك مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين واسرائيل.. مفاوضات «ندية» ليس لكى يستأذن الفلسطينيون اسرائيل فى السماح لهم بدولة، بل مفاوضات حول قضايا وترتيبات العلاقة بين «الدولتين» فى مجالات الامن وغيرها.. اسرائيل بدعم امريكي.. والفلسطينيون بظهير عالمي.
لقد كشف الفيتو الامريكى عن ان حديث الولايات المتحدة عن تمسكها بـ «حل الدولتين» باعتباره السبيل الوحيد لانهاء الصراع فى المنطقة هو حديث لاستهلاك الوقت ومحاولة للالتفاف حول المتغيرات الهائلة التى احدثها «طوفان الاقصي» فى المنطقة وعلى مستوى العالم فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، واعادة تسليم حق الفلسطينيين فى دولتهم المستقلة، إلى اسرائيل للبت فيه بما تراه.
وهو ما لن يحدث.
معركة اقامة الدولة الفلسطينية مستمرة وتحقق نجاحات متتالية لان الشعب الفلسطينى اثبت انه حى وانه مستعد لكل ما تفرضه هذه المعركة عليه من تحديات وتضحيات.
ومجلس الامن ليس ساحة مستباحة لعضو واحد من اعضائه الخمسة الدائمين.
فكما ان المجلس اخفق حتى الان فى اصدار قرار بوقف دائم لاطلاق النار فى غزة او قرار بمنح فلسطين صفة الدولة كاملة العضوية فى الامم المتحدة بسبب الفيتو الامريكى المساند لاسرائيل.
فقد اخفق نفس المجلس فى اصدار اى قرار بادانة عملية «طوفان الاقصي» ضد إرادة الفيتو الامريكى واسرائيل.
عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء.. واى فيتو لن ينجح فى ايقاف حركة التاريخ فى الاتجاه الصحيح.