رغم تعقيدات الموقف الإقليمي والعالمي وصعوبته إلا أن مصر تقدم نموذجًا متميزًا فى إدارة ملف أزمة غزة، على مدى سبعة شهور تمتع التعامل المصرى خلالها مع الأحداث بأعلى درجات الفهم والذكاء السياسى، القرارات فى وقتها، والانتقال من مرحلة إلي أخرى بوعى، والتصعيد السياسي والدبلوماسي محسوب بدقة، الخطاب حاسم، والتصريحات بميزان من ذهب، كل إجراء له هدف محدد وكل خطوة لها رسالتها التى تترجم المحددات والثوابت المصرية.
ولذلك على مدى سبعة أشهر لم يثبت أن تقديرًا مصريًا كان خاطئ أو قرارًا فى غير وقته أو مكانه، أو تحركًا بلا داع أو فى الآتجاه غير الصحيح، وليس هذا من فراغ وإنما نتيجة الفهم الكامل لدى القيادة السياسية لطبيعة القضية وأبعادها، والخبرة المتراكمة لدى الإدارة المسئولة عن هذا الملف والإحترافية في التعامل معه.
منذ البداية تم تشكيل خلية أزمة من الأجهزة والجهات المعنية وأصحاب الخبرة بالملف، الخلية تعمل على مدار الساعة، وترفع تقاريرها إلي الرئيس بشكل مباشر ودائم، تقدم تقديرات لحظية، وتتعامل مع الوضع وتطوراته، وتقرأ التداعيات وتدرس كل الأبعاد، لديها رؤية وسيناريوهات لكل الاحتمالات والمواقف والمفاجآت، ليس هناك قرار أو تصرف صدر عشوائيًا أو دون دراسة لكل جوانبه.
ولذا فالتعامل المصرى طوال الفترة الماضية تميز بالهدوء والإتزان، وفى الوقت نفسه الحزم والوضوح والقوة، لا يستجيب لأى محاولة استفزاز ولا يخضع لإبتزاز، المحرك الوحيد له هو الأمن القومى والمصالح الوطنية العليا لمصر، والحفاظ على القضية وحقوق الشعب الفلسطينى، الأهم أن التحرك المصرى طوال الفترة الماضية كان سباقًا دائمًا لانه مبنى على علم ومعطيات واقعية وقراءة استراتيجية شاملة، لم تكن مصر فى لحظة واحدة رد فعل بل كانت مبادرة فى المواقف والتوقع.
فكانت منذ البداية أول من أدرك خطورة ما يحدث، وحذرت من التصعيد الذى سيشعل المنطقة، وكانت أول من كشف المخطط الإسرائيلي للتهجير القسرى وتصفية القضية، وتصدت له من خلال إعلان الثوابت المصرية الثلاثة مبكرًا، لا تصفية ولا تهجير للفلسطينيين ولا تهاون مع أى مساس بالأمن القومى المصرى.
هذا الإعلان الحاسم مبكرًا لعب الدور الأكبر فى كشف حقيقة النوايا الإسرائيلية وأن الأمر ليس مجرد «دفاع عن النفس» كما صورته دولة الإحتلال للعالم وإنما عقاب جماعى وإبادة لها هدف خفى وهو تصفية القضية والسيطرة الكاملة على فلسطين، وكل ما تنبهت له مصر وحذرت منه حدث بالفعل.
كان الاستباق المصرى بالدعوة لمؤتمر القاهرة للسلام خطوة مهمة فى تغيير الرؤية الدولية لحقيقة الموقف، وكانت الدعوة المصرية المبكرة لمفاوضات الهدنة ووقف الحرب والتعامل بصبر استراتيجى ومرونة سياسية وبراعة، لها الدور الأهم فى إثبات أن إسرائيل لا تريد السلام ولا تبحث عن تهدئة، بفضل القرارات الجيدة والرؤية الاستراتيجية المبنية على فهم وعلم لم تمنح مصر فرصة لتل أبيب أن تمارس ألاعيبها للإفلات من إلتزاماتها أو التنصل من واجباتها كدولة احتلال، كما لم تترك فرصة لها لتروج أكاذيبها، بل حاصرتها بكشف الحقائق والردود الحاسمة والتحركات الجادة والمؤثرة، بذكاء قيادة واعية واحترافية دولة عريقة نجحت مصر فى أن تمارس دورها التاريخى الداعم والحامى للقضية من خلال حشد المجتمع الدولى لمساندة حل الدولتين الذى أصبح لغة العالم الآن، كما قدمت صورة محترمة للوسيط النزيه الذى يمتلك قوة الموقف وقدرة التعامل مع كل الأطراف وعدم الإنحراف عن الهدف الذى تسعى إليه وهو إنهاء الحرب.
هذا الذكاء والقوة المصرية أربكت كثيرًا إسرائيل التى وجدت نفسها أمام إدارة واعية ويقظة وكاشفة لها، بل وتتمتع بمصداقية دولية، إدارة تمثل حائط صلب تتحطم عليه أوهامها التى كانت تعتقد أنها سهلة التحقق، ولهذا وجدنا سلسلة الأكاذيب الإسرائيلية التى تستهدف تشويه الموقف المصرى بإدعاءات مفضوحة، مرة حول معبر رفح وأخرى حول المساعدات وثالثة بتلفيق أخبار كاذبة حول اتصالات لم تحدث من الأساس، هذه الأساليب الإسرائيلية المعتادة هى دليل واضح على أن الموقف المصرى مؤلم لهم ومفسد لكل مخططاتهم، وهو أيضا يؤكد لنا كمصريين أن إدارة الأزمة تتم بأعلى درجات الكفاءة وأفضل مستويات الحفاظ على الثوابت المصرية، وخطوطنا الحمراء، وهو ما يجعلنا مطمئنين لنجاح مصر فى الوصول إلي الهدف الذى تسعى إليه حتى وإن أستغرق بعض الوقت، وهو إيقاف الحرب وعودة الحق للشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة.
وهذا ما يجعلنا نؤكد أن هذا الدور المصرى المبنى على رؤية متكاملة هو الأولى بأن تتبناه القمة العربية وتدعمه ليصبح توجهًا عربيًا لما يساهم فى زيادة الضغط على دولة الاحتلال وعزلتها.