هذا المشهد كان يتكرر كثيراً ـ ولا يزال ـ فى المناطق الريفية فى معظم دول العالم وخاصة الدول العربية.. نحن الآن فى صالون حلاقة بإحدى القرى المصرية قبل سنوات طويلة.. والحلاق هو طبيب القرية والمهيمن على شئون صحة أفرادها.. يشخص المرض.. يصف الدواء الذى لا يقتصر على الأعشاب الطبية الطبيعية والوصفات الشعبية.. بل يصل أحيانا إلى الأدوية الكيمائية كحقن البنسلين.. حلاق القرية الذى تسبب فى إصابة طه حسين بالعمي.. والذى راح على يديه آلاف الضحايا.. ساهم فى شفاء آلاف آخرين بما يملكه من خبرة علمية طويلة فى التعامل مع بعض الأمراض.. وكان يتمتع بثقة أهل القرية إلى الحد الذى كان يجعلهم يرفضون الطب الحديث والأطباء المتأنقين الذين يلبسون البدلة الإفرنجية ويتحدثون بلغة لا تخلو من تعال.. ويفضلون عليهم الحلاق الأمى غالبا والذى يحمل دائما لقب «الداكتوور» كما ينطقها سكان الريف.
نعود إلى المشهد الذى نحن بصدده.. فى صالون حلاق وطبيب القرية يجلس أحد الأشخاص فى انتظار العلاج من صداع حاد.. وما أن ينتهى الحلاق من حلاقة ذقن وشعر «الرأس» التى بين يديه حتى يمسح يديه بقليل من الكحول استعداداً لعلاج مريضه.. وبعد أن يستمع إلى الشكوي.. يؤكد أن الأمر بسيط والعلاج مضمون بإذن الله.. يستأذن مريضه فى التغيب للحظات يعود بعدها حاملا وعاء به عدة ديدان، يضع إحداها على جانب جبهة المريض، ويضع دودة ثانية على الجانب الآخر من الجبهة، لتبدأ الدودتان فى العمل. تعلق كل منهما فى الجلد، تخترق الطبقة السطحية، تبدأ فى امتصاص الدم، وبعد لحظات تصبح الدودة الرفيعة جدا منتفخة كالبالون بسبب ما امتصته من دم بشراهة فائقة، وتزول آلام الصداع.
حتى وقت قريب كانت ديدان العلق مصاصة الدماء البشرية والتى تتميز بشراهة غير عادية فى امتصاص الدم، وسيلة علاجية فعالة لعشرات الأمراض فى العديد من المناطق الريفية فى الكثير من دول العالم، وكان التفسير الوحيد الذى يقدمه المعالجون الشعبيون لهذا التأثير العلاجى هو أن الدودة تمتص الدماء الفاسدة وتخلص الجسم منها. وجاء الطب الحديث ليكتشف الأسباب الحقيقية لهذا التأثير، ومنها على سبيل المثال أن الدودة قبل أن تبدأ فى امتصاص الدم تقوم بإفراز مادة كيمائية خاصة لمنع تجلطه، هذه المادة المانعة للتجلط لها تأثيرات علاجية عديدة، أهمها خفض ضغط الدم ومعادلة تأثير الكولسترول الخبيث، وآخر التأثيرات العلاجية التى تم اكتشافها حديثا لدودة العلق، علاج الالتهابات المفصلية الروماتزمية.
ولاشك أن معظم الناس يشمئزون من فكرة العلاج باستخدام الديدان أيا كان نوعها حتى ولو كانت ديدان العلق ذات التأثير الساحر، إلا انه على المصابين بالروماتيزم تحمل ملمسها الكريه على أجسادهم، لأنها قد تنفع فى علاج آلام المفاصل أكثر من الأدوية.
جرب الأطباء الروس من جامعة كازان، ديدان العلق الماصة للدماء على 100 مريض يعانون من الروماتيزم، وتوصلوا إلى أن ديدان العلق تقلل الآلام الروماتيزمية وأعراض التهاب المفاصل الأخري.
ويقول الأطباء إن الآلام تراجعت جدا بعد فترة من العلاج بالعلق أو اختفت تماما من المرضي، وهذا ليس كل شيء لأن المرضى استطاعوا تحريك مفاصلهم بشكل أفضل بعد الخضوع لجلسات العلاج بهذه الديدان التى تنافس الكونت «دراكيولا» مصاص الدماء السينمائى الشهير.
ويعتقد الأطباء أن المواد المخففة للدم والمقللة للألم التى تطلقها الديدان فى الدم هى صاحبة الفضل فى معالجة الروماتيزم بالعلق، كما تعمل الديدان بهذه الطريقة على تحسين انتشار الدم فى المفاصل وبالتالى تسهيل حركتها.