هو المصرى الذى حفر اسمه فى أكبر المحافل العالمية وذاعت شهرته الآفاق عندما ينطق اسمه معناه أننا مع حجة القانون الدولى العبقرى الذى له عظيم الأثر فى العالم وفى بلده مصر بدأ مع المحاماة لكنه تركها ومع النيابة ولكنه أيضًا لم يستمر طويلاً.. كان سباقًا فى كل شيء.. سطور حياته مملوءة بالنجاحات العبقرية اللافتة والفذة، فهو من المثقفين المميزين القادرين على اختيار اللفظ وتحديد المعني.. سيرته الحياتية والعملية تحمل قبسات نور نادرًا أن يحظى بها شخص ولد فى فترة تعانى فيها الدولة المصرية من استعمار بعد هزيمة عرابى وأيام حكم الخديو توفيق ونوبار باشا رئيسًا للحكومة للمرة الثانية.. فى رحلة حياة تنوعت مساراتها بين المنصورة والإسكندرية وسبقها فترة هجرة قصيرة مع الوالد إلى المدينة المنورة.. وكان المزارعون للقصب يعانون بسبب خسارة محصولهم.. وفى المدينة المنورة والده يلحقه بمدرسة اسسها رجل تركى متقاعد أقرب إلى الكتاب وفيها واصل أول رحلة له مع التعليم.. وكان لابد من العودة إلى مصر خاصة بعد الخسارة فى محلات العائلة فى المنصورة.. وعاش فى الإسكندرية ودخل الصغير مدرسة العروة الوثقى الابتدائية ومنها إلى رأس التين وحاز فيها على المركز الأول وكان نبوغ العبقرى الصغير واضحًا لدرجة أن ناظر المدرسة الأهلية وجه والده بإلحاقه بالعروة الوثقى وبفصل دراسى يتخطى مرحلته فسبق أقرانه بسرعة تنبه ناظر المدرسة لهذه العبقرية المبكرة وكان حصوله على البكالوريا حديث مدرسة رأس التين نفس مدرسة محمود فهمى باشا النقراشى «رئيس الوزراء بعد ذلك فى الأربعينيات»، وحصل على المركز الأول ومنها إلى كلية الحقوق فى القاهرة.. وكادت تضعه الظروف بعد البكالوريا موظفًا فى الجمرك لكن والده وجد أن الإسكندرية ومصر كلها تتحدث عن الطالب عبدالحميد بدوى الأول على البكالوريا وأنه ضرب المثل للانضباط هكذا وصفه المسئولون عن التعليم فى المدارس التى ارتادها.. ونشرت الصحافة اسمه من الأوائل فى دفعة ضمت أديب شاهين ومحمد صادق حسين وعبدالرحمن الرافعي..
وفى كلية الحقوق كان التفوق حليفًا للعبقرى عبدالحميد بدوى ودخل عام 1904 الحقوق ليتخرج فيها عام 1908 وضمت الدفعة أحمد باشا ماهر وكامل يوسف وصالح عنان وحسن نشأت الذى ترأس الديوان الملكي، والخمسة فى دفعته تولوا مناصب وزارية مرموقة.. وكان بدوى الأول على دفعته.. التى ضمت 50 طالبًا حسب ترتيب النجاح فى البكالوريا.. ونظرًا لتفوقه علم أستاذ الأجيال أحمد لطفى السيد بعبقرية الشاب الطالب بدوي.. وفتح له طريقًا مهمًا فقدمه إلى النائب العام عبدالخالق ثروت.. تولى الحكومة مرتين 1922 – 1928، وكان قبل رئاستها وزير للحقانية «العدل» وقال د. لطفى السيد للنائب العام ثروت إن عبدالحميد بدوى من نوابغ الخريجين وقال له «لا أقدم لك شابًا يريد الوظيفة بل شابًا تريده الوظيفة».. وبدأ أول مراحل التفوق العملى مع عبدالخالق باشا ثروت وذلك بعد حادث دنشواى بعامين تقريبًا وكانت الدولة لاتزال تعيش أحداثها وتوابعها لتعرض على الشاب قضية سياسية مهمة وهى قضية الشيخ عبدالعزيز جاويش المناضل عضو الحزب الوطنى رئيس جريدة اللواء التى أسسها مصطفى كامل وهى القضية التى تحول فيها إلى بطل شعبى وكان بدوى حديث الصحافة وكان موضوع تربص من سلطات الاحتلال كذلك عندما كتب مقدمة لديوان على الغاياتى «وطنيتي».
وكان إعادة فتح باب البعثات فاتحة الخير لعبدالحميد بدوى خلال تولى سعد باشا زغلول الوزارة وكان مفترضًا أن يكون على رأس البعثة لكن النائب عبدالخالق باشا ثروت تمسك به لأنه فى نظره عقلية قانونية متميزة لا يمكن الاستغناء عنها.. التحق بالبعثة لتبدأ رحلة جديدة حصل خلالها على الدكتوراه فى القانون الدولى من نفس المدينة التى حصل مصطفى باشا كامل «تولوز» قبلة المصريين للعلم ومن تولوز إلى جرينوبل شرق فرنسا وكان أول مصرى يحصل على الدكتوراه من جامعة جرنيوبل وأشرف عليه مسيوبا ديفان، الذى كان قاضيًا فى محكمة العدل مع تلميذه عبدالحميد بدوي.. وعاد إلى القاهرة وسبقه كتاب من عميد الجامعة فى جرينوبل إى وزارة المعارف عن الشاب الذى يبلغ 25 عامًا وحاز على الدكتوراه فى رسالة لا يستطيع أحد فى الفقه القانونى المدنى أن يستغنى عنها.. فقد كان اختياره للموضوع ليس صدفة لكنه تماشى مع الحركة الوطنية المصرية وهو «الامتيازات الأجنبية».
عبقرية بدوى كانت فى اختيار موضوع الرسالة التى عاد بها إلى كلية الحقوق عام 1912.. وفى عام 1914 أختير عبدالخالق باشا ثروت وزيرًا للحقانية واختاره سكرتيرًا فنيًا وانتزعه من التدريس فى صعود استثنائى كواحد من عباقرة القانون وينطلق بعدها رئيسًا لهيئة قضايا الدولة وكان أول مصرى فى لجنة قضايا الحكومة ويشهد بكفاءته فى هذا الخصوص عبدالعزيز باشا فهمى الذى اختاره للجنة قلم القضايا وترأس اللجنة لمدة 14 عامًا «1926 – 1940» وكان له دور مميز فى تمثيرها وعين 10 مستشارين مصريين ويقف فقهاء القانون طويلاً عند دوره فى وضع دستور مصر بعد ثورة 1919.
فى لجنة الثلاثين التى كان على رأسها حسين باشا رشدى وفى محطات حياته يقف التاريخ طويلاً حول مواقفه القانونية والعملية خاصة عند عاصفة اغتيال سر دار الجيش المصرى وحاكم السودان «ستاك» كما أعد المذكرات الخاصة بحصة مصر فى مياه النيل 1929 والاشراف على مجرى النهر ويعود إلى الدكتور بدوى رؤيته القانونية.. وكان بمثابة «مفتى الدولة القانوني» وهذا قاده إلى تعيينه مستشارًا ملكيًا عام 22.
وأصدر الملك فؤاد قرار ليعينه رئيسًا لقضايا الأشغال العمومية والحربية البحرية.. ومع الحرب العالمية الثانية وموقف مصر والتى ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة ووسط تضارب القصر والبرلمان حول الموقف خاصة بعد غارة جوية طالت القاهرة راح ضحيتها 39 قتيلاً و33 جريحًا.. تصدى بدوى لمساندة الحكومة بمذكرة مهمة وظهرت فى الشارع المصرى ما يمكن تسميته انقسامًا بأن مصر مع إيطاليا وألمانيا ضد الحلفاء وهتاف إلى الأمام ياروميل أسطورة العسكرية فى هذه الحرب.. وقبلها كان له موقف واضح فى وثيقة تنازل عباس حلمى عن العرش وهى الوثيقة التى بها اطمأن الملك فؤاد على ابنه ولى العهد الملك فاروق بولاية العهد وأهم ما يميز بدوى باشا فى هذه المرحلة هو استقلاله بعيدًا عن التيارات الحزبية التى كانت تتقاطع أحياناً كثيرة مع بعضها.. وسيظل التاريخ المصرى يذكر بعزة وافتخار شاهدًا على نبوغه وهو يتحدث ويوقع على ميثاق الأمم المتحدة كوزير لخارجية مصر على ميثاقها بعد حرب عالمية أودت بحياة أكثر من 60 مليونًا وملايين المصابين.. ليتم رسم خريطة جديدة فى العالم وفترة سان فرانسيسكو كان الوفد المصرى برئاسته ومتابعة الملك ورئيس الوزراء والشعب كله تصرفات الوزير المصرى وصحف أمريكا تتحدث عنه وتصديه لمحاولات الصهيونية أمام دار أوبرا سان فرانسيسكو حيث يجتمع المؤسسون للمنظمة الجديدة.. وكان قبلها فى مصر قد أنجز مسودة ميثاق الجامعة العربية فى مارس 1945.. وقد شهدت مصر الحفاوة الكبيرة بالرجل العائد من سان فرانسيسكو مع وفد بلاده وهو عائد مع زوجته زهيرة هانم المنشاوى.. وبعدها فتحت له الساحة الدولية ذراعيها بعد رئاسته باسم مصر لواحدة من 4 لجان فى إعداد ميثاق المنظمة الدولية ليدخل بعد ذلك فى مكان آخر مرموق وهو هذه المرة فى لاهاى فى هولندا بمحكمة العدل الدولية ليسجل سبقًا هو الأول لمصر فى محكمة العدل الدولية والذى استمر لمدة عقدين من الزمان وهو العبقرى الذى وصفه الكاتب محمد حسين هيكل أنه من أهم وزراء الخارجية، من أرقى العقليات القانونية.. وكانت حصيلة 20 عامًا فى المحكمة 20 قضية و11 فتوى و13 رأيًا حسم بها أعقد المنازعات بعد الحرب العالمية الثانية فى قضايا دولية وإقليمية حساسة كان الرأى القانونى للقاضى المصرى هو الفيصل كما جاء فى كتاب عبقرى القانون لمؤلفه أيمن الحكيم محطات كثيرة للرجل تولى وزارة الخارجية وبداية الحرب الباردة، وها هو تستذكر مسيرة الفقيه والعبقرى القانونى د. عبدالحميد باشا بدوى بمناسبة مرور 139 عامًا على مولده و60 عامًا على وفاته.
النشأة
ولد الدكتور عبدالحميد بدوى والبداية فى ظل وضع سياسى مرتبك بعد 5 سنوات من هزيمة عرابى ونفيه إلى ايام حكم توفيق الحكم ورئاسة الوزارة لنوبار .
فى هذه الأثناء فى 13 مارس 1887 ولد عبدالحميد بدوى وكان هناك اختلاف على محل الميلاد هل هو المنصورة أم الإسكندرية لكن الكاتب الصحفى صبرى أبو المجد رئيس تحرير مجلة المصور السابق أوضح فى موسوعته سنوات ما قبل الثورة قال إنه ولد بالمنصورة وعاش فى الاسكندرية وأن والده محمد بك بدوى كان يعمل بالتجارة والصناعة ويعد من رواد الصناعة المصرية وهو أساساً أى والده من أبناء المنصورة عام 1862 ومع العمل بالتجارة حدث له كساد وخسارة تجارية، سافر على اثرها إلى المدينة المنورة واستمر عدة سنوات عام 1895 ونال «البكوية»، وكان والد عبدالحميد بدوى قد تزوج مبكراً من السيدة بهانة السرجانى والدة عبدالحميد وأنجبت ٦ من الأبناء أكبرهم بهجت الذى عمل بالتجارة مع والده وكان وزيراً للتجارة بعد ثورة يوليو، وتم اختياره رئيساً لهيئة قناة السويس كأول رئيس بعد التأميم عام 1956، وحميدة الابنة الكبرى التى تزوجت محمد ثابت سكرتير عام مجلس الوزراء ود.عبدالحميد ونبوية التى ولدت فى المدينة المنورة وتزوجت محمد عبدالله ووفيقة التى تزوجت التاجر حسن الصباغ، ومحمد كامل الذى ترأس غرفة التجارة بالاسكندرية 1961/1968 وترأس محافظ المنطقة الروتارية بعد ذلك، وبعد وفاة زوجته الأولى «بهانة» تزوج من السيدة فاطمة شاهين وأنجب منها سميرة ومحمد.
من هنا يبدو أن د.عبدالحميد كان ترتيبه الثالث بين الاخوة وعاش مع والده فى المدينة وبقية الابناء، وذهب إلى «كتاب» أسسه رجل تركى وبعد 3 سنوات ترك محمد بدوى الأب المدينة وعاد إلى القاهرة بعد تعرض محلاتهم لفاجعة فى المنصورة بحريق فى محلاتهم.
فى الإسكندرية
الوصول إلى الاسكندرية جاء بقرار بدعوة من خاله جد د.عبدالحميد محمد أبوالنصر، وبعدها واصل الأب طموحه، أنشأ أول مصنع لـ «المكرونة» ودخل فى تنافس مع الايطاليين وأصبح مؤسساً لأول المصانع الغذائية الوطنية على أرض غربال وأضاف صناعات البسكويت والأوانى المنزلية وهنا دخل فى صداقة مع طلعت باشا حرب وافتتح معه حساب فى بنك مصر، ودخل الابن عبدالحميد العروة الوثقى أهم المدارس الثلاثة فى الاسكندرية مع رأس التين والشيخ راتب، ولفت مستوى د.عبدالحميد ناظر المدرسة، فقرر نقله إلى الصف الثالث مباشرة فى المدرسة التى كان بها فى الصف الأول محمود فهمى النقراشى ونجح فى الابتدائية وحاز على المركز الأول ليواصل الرحلة فى رأس التين وفيها حاز على المركز الأول فى مدرسة كانت واحدة من أهم مدارس الثغر الثانوية ولا يعادلها إلا فيكتوريا كولج التى كان يدرس فيها أصحاب الطبقة الارستقراطية وكان يدير رأس التين اسماعيل حسنين باشا وبها نخبة من أفضل رجال التعليم فى مصر وفى امتحانات مركزية بالقاهرة عقدت الامتحانات فى الخديوية بدرب الجماميز وتقدم 279 طالباً للامتحان نجح منهم 126 وكان عبدالحميد بدوى الأول على القطر المصرى وضم الثلاثى الأول معه أديب شاهين ومحمد صادق حسين وعبدالرحمن الرافعى الثالث مكرر، وحاز بدوى على الدرجة النهائية فى اللغة العربية فى سابقة لم تتكرر إلا مع الفقيه عبدالرازق السنهورى بعد نحو 7 سنوات وكان السنهورى فى العباسية الثانوية.
الأول على الحقوق فىدفعة بدوى
ضمت دفعة عبدالحميد بدوي، حسن باشا نشأت رئيس الديوان، وأحمد باشا ماهر رئيس الوزراء فيما، وبالمناسبة ٥ من دفعة حقوق 1902 تولوا مناصب وزارية وكانوا يطلقون على مدرسة رأس التين نفس ما يطلق على كلية الحقوق «مدرسة الوزراء»، فقد كان من تلاميذها أيضا أحمد أمين المستشار بمحكمة النقض وعبدالحميد أبوضيف اللذين كانا أساتذة بكلية الحقوق، وكانت الكلية تضم 50 طالباً وكانت تقاريرها تصل إلى اللورد كرومر الذى كان يعمل للكلية ألف حساب، وكان هناك تنافس فرنسي- انجليزى على الكلية، وكان مقرها فى شارع حسن الأكبر، قبل أن تكون ضمن حرم جامعة القاهرة.
نال بدوى الليسانس بالمركز الأول وتخرج وكان مقرر العمل فى المحاماة، وبعد التخرج قابل أستاذ الأجيال أحمد لطفى السيد، وكما يقول المثل الفرنسى «الموهبة كالفضيحة لا يمكن إخفاؤها».. لفت نظر د.لطفى السيد، الشاب الصغير وبدأت علاقة ممتدة.
علاقته مع أستاذ الأجيال
مع د.لطفى السيد راعى المواهب وهو من خريجى الحقوق ودرس بالمنصورة ومن مواليد برقين بالسنبلاوين وخريج دفعة 1894 من حقوق القاهرة.. قدم الطالب النابه عبدالحميد بدوى لصديقه عبدالخالق باشا ثروت 87- 1928، وذلك قبل أن يتولى ثروت وزيراً للحقانية فى حكومة حسين سرى باشا، وبالفعل عمل د.عبدالحميد فى طنطا ومعه قرار النائب العام كمساعد للنيابة فى الغربية، قبل أن يُرقى سريعاً ويعود للقاهرة فى الاستئناف ضمن سياسة ضخ دماء جديدة فى المحاكم.
قضائياً، بدأ اسمه يلمع مع قضية الشيخ عبدالعزيز جاويش «1876/1929» وكان يكتب فى جريدة «اللواء» لسان الحزب الوطني، وكان قد كتب مقالاً شديد اللهجة اعترضت عليه السلطات فى الذكرى الثانية لحادث دنشواي، وعليه حكم على الشيخ جاويش بالسجن ليتحول إلى بطل شعبي، كما تربصت له سلطات الاحتلال فى موقعة أخرى على مقدمته لديوان «وطنيتي» الذى كتبه على الغاياتي.
البعثة
بينما د.عبدالحميد ينجح فى مسيرته القانونية، لكن عينه على الدراسات العليا.. ومع تعيين سعد زغلول رئيساً للوزراء، أعاد العمل بنظام البعثات، وتقدم لكن النائب العام عبدالخالق ثروت تمسك به وأفاد بأنه لا يمكن الاستغناء عنه، لكن بدوى لم يستسلم وأعاد الكرة فى العام التالي، وقبل واختار لتعليم الفرنسية ومنها إلى جرينوبل لنيل الدكتوراه وهى نفس المدينة التى عاش فيها مصطفى كامل الزعيم الوطني، وأتقن د.عبدالحميد الفرنسية قراءة وكتابة، وفى 16 أكتوبر 1910 فى جرينوبل واصل الدراسة وحاز على اجازة بحثية شهرين، حاز فيها على الموافقة برحلة على باريس استعداداً لمناقشة الدكتوراه، وكان أول مصرى يحصل على الدكتوراه فى الجامعة وأشرف عليها مسيو «باديفان» القاضى بمحكمة العدل الدولية، الذى تشاء الظروف أن يزامله فى نفس المحكمة كقاضٍ بعد 35 سنة من الحصول على الدكتوراه، التى كانت فى موضوع الامتيازات الأجنبية، وأرسل عميد جامعة جرينوبل رسالة إلى وزارة المعارف يشيد فيها بالشاب المصرى الذى يبلغ «25 عاماً» بحصوله على الدكتوراه، وأن رسالة مسيو بدوى لا يمكن لأحد قانونى أن يستغنى عنها، وعنوان الرسالة وموضوعها يعكس وطنية كبيرة، فقد كانت صداعاً فى رأس حكومات مصر ما قبل الثورة.
كان د.عبدالحميد له دور مميز فى إلغاء الامتيازات الأجنبية مع ثروت باشا، وعندما تم اختيار عبدالخالق باشا ثروت وزيراً للحقانية «العدل»، ولأنه يعرف قدر د.عبدالحميد وكان ذلك فى وزارة حسين سرى باشا عام 1914 اختاره سكرتيراً فيها للحقانية وانتزعه من التدريس.
صعود استثنائي
هذا العبقرى كما يقول الفقيه الدستورى عبدالرازق السنهوري، كان له صعود استثنائى كأكبر عبقرى قانونى فى العصر الحديث، والسنهورى يصغره بـ ٨ سنوات، فهو من مواليد 11 أغسطس، ويربطه رباط مشترك فكلاهما من الاسكندرية، ومع عبدالخالق ثروت فتحت له أبواب جديدة كمسئول عن مكتب الوزير الفنى وكان عبقرياً فى ثورة 1919 وانضم إلى لجنة الموظفين، وهذا ليس قراراً سهلاً بالنسبة لموقعه، لكن الوطنية كانت تقوده إلى المشاركة وسط صحوة المصريين مع سعد زغلول وكان إضراب الموظفين سبباً فى سقوط وزارة حسين سرى باشا، وتولى عبدالخالق ثروت باشا رئاسة الوزراء، وهنا أعاد تلميذه د.عبدالحميد بدوى سكرتيراً عاماً لمجلس الوزراء وكان ثانى مصرى يتولى هذا الموقع بعد شيخ العروبة د.أحمد زكى باشا، وبات د.عبدالحميد بدوى فى وسط الأحداث والتغيير الوزارى المتلاحق فى وزارات مصر المفتى القانونى للدولة، خاصة عندما أصدر الملك فؤاد مرسوماً وتعيينه رئيساً لقضايا الأشغال العمومية والحربية، ووسط أمواج التقلبات السياسية واندلاع الحرب العالمية الثانية وقوات الحلفاء والمحور تقترب من العلمين، وفى هذه الأثناء مع ارتفاع نجم د.عبدالحميد كانت الدسائس أحياناً تطوله لأنه لم يرتبط بحزب معين وعاش مستقلاً على مسافة واحدة من كل الأحزاب وهذا كان واضحاً فى مؤتمر «مونتيرو» الذى ألغيت فيه الامتيازات.
وزيراً للمالية ووزيراً للخارجية
من المحطات المهمة فى حياته، تعيينه وزيراً للمالية فى حكومة حسين سرى باشا، وفى 7 مارس 1945 قرر تعيينه وزيراً للخارجية، ووفاة رئيس الحكومة حسن صبرى وهو يلقى خطاباً فى البرلمان، فوجد نفسه وزيراً للمالية فى مشهد سياسى ملتهب، باعتبار أن قبوله المنصب قدر لا مفر منه وهو المنصب الذى رفضه فى حكومة عبدالخالق ثروت باشا.
قادت دراما تاريخية د.عبدالحميد بدوى إلى وزارة الخارجية وكان قد كتب مقالاً بمجلة «المصور» قبل اختياره إكراماً لصديقه فكرى باشا أباظة رئيس التحرير ونشره فى يناير 1944 حول مستقبل مصر السياسى وفيه يرسم خريطة لمصر المستقبل بعد الحرب العالمية، كما شارك فى كتابة ميثاق جامعة الدول العربية وبروتوكولها الذى وقعه ممثلو الدول العربية فى قصر انطونيادس بالإسكندرية فى 7 أكتوبر 1944.
تأسيس الأمم المتحدة
شاء القدر للدكتور عبدالحميد بدوى فى حكومة النقراشى التى تولى فيها الرئاسة أن يختاره وزير الخارجية رئيساً لوفد مصر فى تأسيس المنظمة إلى جانب مصر السعودية وسوريا ولبنان والعراق، وكان رئيس وفد السعودية الأمير فيصل بن عبدالعزيز «ملك السعودية فيما ونجح فى حضور 1200 يمثلون 46 دولة مؤسسة فى وجود 1501 إعلامى لهذا الحدث الكبير المدهش، انا أوبرا سان فرانسيسكو تشهد تأسيس المنظمة، فى الوقت الذى اندلعت فيه الحرب العالمية أيضا من دار أوبرا برلين.
تم اختيار مصر رئيساً للجنة المسائل القانونية ضمن 4 لجان لإدارة أعمال المؤتمر، ووقّع د.عبدالحميد باسم مصر، كما ألقى كلمتها فى البداية وكانت رقم «14» فى سلسلة الكلمات البروتوكولية وكانت كلمته الوحيدة التى أشار فيها إلى نقاط مهمة كانت محل نقاش فيما بعد، ولفت الانتباه إلى حديثه عن حقوق الدول الصغيرة، وخلال فترة المؤتمر كان محور النقاش القانونى هو د.عبدالحميد بدوي، فقد قام بمهام متشابكة للإصلاح بين الدول واستقبل فى مصر استقبالاً حافلاً للدور المميز الأمم المتحدة، وكان من طلباته فى كلمته اعتماد اللغة العربية لغة رسمية، وهو ما تم بعد سنوات، وكان كلامه على تعديل نظام مجلس الأمن إلى «14» عضواً بدلاً من «11» وهو الطلب الذى لم يتحقق.. وبعد أن انتهى من دوره كوزير للخارجية فى سان فرانسيسكو وتكريم الملك له وللوفد المصرى كانت تنتظره مهمة جديدة لكن فى لاهاي.
فقد رُشح قاضياً فى محكمة العدل الدولية وفاز بالمقعد لكى يكون أول قاضٍ عربى من الشرق الأوسط فى المحكمة الدولية بلاهاى ومن هذا المنصب الذى تجدد له مرتين وكان موضوع حفاوة دولية لثقافته القانونية.
ومع المحكمة فى 20 عاماً حقق فى 20 قضية وقدم 11 فتوى و13 رأياً قانونياً، كانت حاسمة فى أعقد النزاعات الدولية.
ومن يدخل قاعة المحكمة فى لاهاي، لابد أن يفتح وهو يرى صورة د.عبدالحميد بدوى على جدارية المحكمة وقاعاتها، وفى أعقد القضايا الدولية كان له صوت مسموع ورأى مقنع.
زواجه
ربما شاهد الحضور فى سان فرانسيسكو سيدة مصرية قريبة من الدكتور عبدالحميد وكان مع زوجته الوزير المفوض المصرى فى أمريكا لا يفترقان، انها السيدة زهيرة المنشاوى التى تألقت فى حفل التوقيع كسيدة مجتمع وسفيرة وزوجة وزير خارجية ورافقته فى لاهاى 20 عاماً، فهى ابنة حافظ باشا المنشاوى من وجهاء الغربية وهى أم أولاده وكان والدها من الأعيان حاز على لقب «باشا» فى 15 فبراير 1937 وهو واحد من 3 أشقاء أسسوا تاريخ العائلة، يهتم أحمد باشا المنشاوى والبسيونى باشا المنشاوى ومحمد بك باشا المنشاوي، وكان لها شقيقان أحدهما على ومات صغيراً وابراهيم وتزوج السيدة صفية سليلة عائلة بينهم ولها شقيقات ثلاث تزوجن فى عائلات مختلفة، فيما تزوجت شقيقتها زينب من حلمى بهجت بدوى ابن شقيق عبدالحميد بدوي، وكان وزيراً للصناعة ورئيساً لهيئة قناة السويس بعد تأميمها، وعاش مع زوجته فى فيلا بمصر الجديدة، قريبة من الشارع الرئيسى بجوار الأوتوستراد فى مساكن شيراتون الذى يحمل لافتة باسمه إلى اليوم والفيلا قريبة من قصر البارون الآن بشارع محرم شوقى قبل هدمها.
أولاد د.عبدالحميد، نهى تزوجت الدكتور عبدالفتاح الطوبجى أشهر أطباء العيون بمصر، أما نهى كانت تعمل مترجمة، ونوال حسين كمال أحمد لمحامى ابن أحمد باشا علي، أما الابن فهو محمد عبدالمنعم بدوى مهندس زراعى كان رجل أعمال وصناعة وعبدالحليم بدوى كان سفيراً لمصر فى البرتغال ومندوباً لمصر فى الأمم المتحدة 1986/1990 ومساعداً لوزير الخارجية. تعد السيدة زهيرة المنشاوى أول سيدة مصرية تدشن سفينة النصر فى أمريكا أثناء مؤتمر سان فرانسيسكو.
وفاته
بينما كان قد اقترب من الثمانين فى 4 اغسطس 1965 وفى ذروة العطاء، أصابته أزمة قلبية كانت المشهد الأخير فى حياته ونعته مصر والجامعة العربية والعالم ومؤسسات الأمم المتحدة، وفى جنازة مهيبة تقدمها مندوب الرئيس جمال عبدالناصر والوزراء والقوات، ودع إلى مثواه الأخير وكانت حفلات تأبين فى كل مؤسسات مصر، تتحدث عن أسطورة قانونية شامخة أسهمت فى رفع اسم مصر وفقيه جمعية الاقتصاد السياسى والتشريع كرئيس لمجلس إدارتها، ويوم وفاته نعاه مجلس الأمن، وفى أول جلسة لمحكمة العدل الدولية فى 8 سبتمبر 1965 بعد رحيله نعته بكلمة من رئيسها الاسترالى ترس سبنسر فى جلسة شهدت دقيقة حداد من القضاة زملاؤه.. فى يوم وفاته فقدت مصر والعالم العربى والعالم الثالث قيمة قانونية ستظل خالدة.