بطاقة الهوية الشخصية تؤكد أنها امرأة، المظهر الخارجى يؤكد أنها أنثي، وهذا هو كل شيء، أو هذا هو كل علاقتها بعالم النساء، بل بعالم المشاعر الإنسانية كله.. كان الوصف الوحيد الذى يسعدها وتطرب له هو المرأة الفولاذية لأنه يشعرها بالتفوق فى الوصف على المرأة الحديدية، وكان الشيء الوحيد الذى يضايقها من هذا الوصف هو انه يبدأ بكلمة امرأة، فهى تعلم أن المرأة فى مجتمعاتنا العربية موصومة بالضعف، والضعف كلمة بغيضة إلى نفسها تكرهها كراهة التحريم.. ولما لا وهى التى أصبحت ـ أو هكذا اعتقدت ـ قوية جدا.. بل أقوى من كل الرجال.
نعم هى أقوى من كل الرجال والنساء أيضا، لا تذكر أبدأ أنها ذرفت دمعة واحدة لأى سبب، حتى عندما مات زوجها تعاملت مع الموقف «بموضوعية»، اعتبرته مجرد انتقال إلى مرحلة جديدة من حياتها: حرية أكثر، قدرة أفضل على اتخاذ القرار، مهام إضافية فى الحياة العملية باعتبارها وارثة لنصيب كبير من أمواله وأعماله والوصى على إرث أبنائها، رصيد جديد يضاف إلى حساباتها المتضخمة فى البنوك. لم تتأثر سوى باستسلام أبنائها الثلاثة للحزن على الأب الذى غاب فجأة، فالحزن ضعف وهى لا تريد لأبنائها أن يعيشوا إحساس الضعف حتى ولو كان حزنا على فراق أغلى الأحباب.
ما سمعته عنها ثم ما عرفته يفوق كل وصف، امرأة لا تعرف الحب، فالحب استسلام مرفوض، حتى ولو كان هذا الاستسلام لمشاعر الأمومة تجاه أبنائها. لا تعرف الصداقة، فالصداقة إهدار للوقت، والوقت عندها من ذهب وياقوت وماس. كل المشاعر عندها لها ثمن، وهى تملك الثمن دائما، تستطيع أن تشترى خضوع الآخرين، تستمتع بمشاهدة ذلك فى عيون العاملين فى شركاتها وكلهم من الرجال، أين قوة الرجل وسطوته؟.. تستطيع أن تفصل العشرات منهم وتستمتع بتوسلاتهم، تستطيع أن تجعل ألسنتهم تلهج بالثناء، ما فى قلوبهم لا يعنيها حتى ولو كان كراهية وازدراء، يكفى وقوفهم فى هلع كلما رأوها، يكفى ارتجافهم وهم يتحدثون إليها، يكفى تسابقهم لتلبية رغباتها.
فجأة تهاوى الفولاذ، انهارت المرأة المتمردة على أنبل القيم الإنسانية: ارتفاع شديد فى ضغط الدم، نزيف فى الدماغ، لحظات عصيبة فى العناية المركزة.. وعندما أفاقت لم تجد أحدا بجوارها، حتى باقات الزهور التى أرسلها العاملون فى شركاتها خوفا وليس حبا، ذبلت. حاولت استعادة قدرتها على التمرد، أرادت أن تختبر قوتها فى مواجهة المرض، قررت النهوض من سريرها، قررت العودة إلى الحياة التى تعرفها، تصورت أنها لا تزال النجمة الوحيدة فى عالم لا ترى فيه أكثر من موطئ قدميها، وسقطت كما لم تسقط من قبل، اكتشفت الحقيقة المرة، النزف أصابها بشلل نصفى لا شفاء منه، أكثر ما يمكن أن تطمح إليه استعادة القليل جدا من قدراتها الحركية، بالقدر الذى يمكنها من تلبية بعض احتياجاتها.
تصورت أن الأطباء شامتون، أن الممرضات فرحات، تذكرت أبناءها، قررت أن تجعلهم العصا التى تضرب بها المتمردين عليها، وقبل أن تسترسل فى أوهامها تلقت الصفعة الأكثر إيلاما، أبناؤها رفعوا عليها قضية حجر بعد أن أصبحت عاجزة عن إدارة أعمالها. جاء أوان الحصاد.. وكم كان مرا.